أعيش تجربة لطيفة هذه الأيام، على قلة التجارب اللطيفة التي عاشها الإنسان في السنتين الأخيرتين، فقد بدأت العمل مع ناشر كتبي «الدار العربية للعلوم» على تجهيز أعمالي الشعرية لكي تصدر في ثلاثة مجلدات، في الخريف المقبل.
فرصة مراجعة ما كتبه المرء فرصة نادرة، حيث يعرف كثير من الناس أن الكاتب لا يعود إلى قراءة ما كتب، أو يفرّ من ذلك، مع أن هذه الظاهرة يعيشها كتّاب الروايات والقصص أكثر مما يعيشها الشعراء والدارسون، الذين غالباً ما يضطرون للعودة إلى ما كتبوا لأنهم يحتاجون ما ورد في أعمالهم، في أمسيات شعرية وندوات وحوارات.
لكن قراءة كل ما كتبوا دفعة واحدة أمر لا يتكرر إلا في حالة كهذه (إعادة توحيد كتبهم التي صدرت متفرقة).
وقبل أن أذهب للجانب الثاني من هذا الموضوع، الذي هو في الحقيقة سبب كتابة هذا المقال، سأفسّر من وجهة نظر شخصية عدم العودة لقراءة الأعمال الإبداعية، بالقول إن ذلك قد يكون نوعاً من الهروب من عيْش التجربة مرة أخرى، ومعظم تجاربنا قاسية. وهناك سبب هو التّحرر من العمل بمحاولة نسيانه، لكي تمضي صافياً ومتحرِّراً إلى عملك التالي. وربما يكون هناك الخوف أيضاً من أن تكتشف شيئاً لا تحبه حتى في كتاب ناجح، أو تندم فتقول ليتني كتبتُ هذا الفصل أو هذا المقطع الشعري بطريقة مختلفة، أو تعثر على خطأ لغوي أو مطبعي ما كان لك أبداً أن تقع فيه، حتى سهواً، فيتنغص فرحك بالكتاب الذي استقلّ عنك ومضى يشق طريق حياته بنفسه، ولعل هناك أسباباً كثيرة أخرى.
المهم؛ حين بدأت البحث عن صورة شخصية توضع على غلاف المجلدات الثلاثة احترت، كما لو أن الكاميرا لم تزدهر في زماني، أنا الذي عشت مراحل حياتها، مذ كان المصوِّر يحشر رأسه في كيسها الأسود ليلتقط لنا صوراً أمام الجامع الحسيني في عمَّان، إلى أن أصبح أطفال في الثانية من عمرهم، أو أقل، يلتقطون الصور بهواتف أمهاتهم وآبائهم!
كان لا بدّ في النهاية من اختيار صورة، وبالطبع، كانت صورة لا تخلو من لحظة تأمل أو رحيل إلى الداخل، تليق بالحدث! وحين نبّهتني ابنتي، التي رأت الصورة، إلى صورة أخرى تحبّها، أظهر فيها مبتسماً! وأيدها فيما بعدُ صديقي المبدع فاروق وادي، كان جوابي لهما: إن الشعراء لا يبتسمون في صورهم التي تتصدّر أغلفة كتبهم!
تجادلنا كثيراً في مسألة: يبتسمون أو لا يبتسمون، إلى أن قررتُ العثور على دليل دامغ يؤكد وجهة نظري، فتوجّهت إلى رفوف الشعر في مكتبتي، فأكدتْ الأغلفة، بيسر، صحة رأيي، وأن ذاكرتي جيدة، ولكي أقطع الشك باليقين أكثر، توجّهت إلى العارفة بملامحنا، الحافظة لها، شبكة الإنترنت.
كتبت: «غلاف الأعمال الشعرية»، وانتظرت السّاحر «غوغل» لحظة أو أقل! فإذا به يضع أمامي بسرعة تفوق سرعة الجنِّي الخارج من الفانوس السّحري، عشرات أغلفة الأعمال الشعرية العربية.
أحسست بانتصاري الباهر، فها أنا أعثر على شاهد إثبات لصالح قضيتي المرفوعة ضد الابتسامة!
لقد طالعتني وجوه أصدقائي الشعراء على أغلفة كتبهم، كما أتذكرها، جادة، رصينة، غارقة في التأمل، مع قبضات تسند بعض رؤوسهم المائلة قليلاً، كأنهم يخشون وقوعها.
يا للهول، لا يوجد هناك حقّاً من يبتسم!
لكن ذلك لم يستمر طويلاً، إذ ظهرت وجوه مؤيدة لرأي ابنتي ورأي صديقي فاروق، فها هو أحمد فؤاد نجم يبتسم، وها هو أحمد عبد المعطي حجازي يبتسم، وها هو أحمد مطر ينشر نصف ابتسامة، لا أكثر. ولم يفتني وجود مفارقة في هذا الاكتشاف، فكلهم يحملون الاسم نفسه: أحمد. فبدأت البحث عن آخرين يحملون الاسم، إلا أن جهودي خابت. ولم تمد لي يد العون بنصف ابتسامة إلا الصورة الرائجة لجورج أورويل التي تصدَّرت غلاف أعماله الشعرية بالعربية، وهذا الأمر فيه أكثر من مفاجأة، نصف الابتسامة هي الأولى، أما الثانية، لمن لا يعرف، فهي أن جورج أورويل صاحب الرواية الأكثر تشاؤماً فيما يتعلق بالمصير البشري: 1984 شاعر، على ما في الشعر من رهافة وندى. يقول أورويل:
«تعالي إلي أيتها الأمواج الرقيقة/ اغسلي رمل البحر البارد/ تعالي وقبِّلي الشاطئ الذي أعيش عليه/ أيتها الأمواج التي تحمل رائحة الوطن/ أيتها الأمواج السعيدة الجريئة/ التي لا يوقفها مطر أو خوف…» كما جاء في ترجمة عماد الأحمد.
إذًا، نحن أمام ثلاث ابتسامات لا غير، إذا أتقنّا عملية الجمع، اثنتان كاملتان، والأخيرة هي مجموع ابتسامتين لم تكتملا، وهذا ما يعيدنا إلى السؤال ثانية: لماذا لا يبتسم الشعراء على أغلفة كتبهم، مع أنني أعرف أن كثيراً منهم، في حياتهم، كانوا من أظرف الناس وأكثرهم حرصاً على اندفاع الضحك من أعمق أعماقهم، مثل ممدوح عدوان، وعلى الجندي، وفايز خضور، وسميح القاسم، وغيرهم. وهؤلاء، ممن رحلوا، لا يستطيع الإنسان أن ينسى أثر ابتساماتهم، كما لا يستطيع أن ينسى أنصاف ابتسامات غيرهم، أو أرباعها، والضحكات التي من القلب لشعراء آخرين! وهكذا، يمكن القول، لحسن الحظ: هناك عدد غير قليل من أصدقائنا الشعراء الذين يمكن أن نشهد لهم أنهم يبتسمون. هل غياب الابتسامة من الصور يجيء رغبة في الظهور بمظهر جدّي، أم أنه أمر حقيقي يبوح بما في القلوب والأرواح من هموم وعذابات وأحزان، بحيث ينطبق عليهم شعر أورويل نفسه، حين يكتب «سبعة آلام مختلفة ومنفصلة عبثت بجسده مثل الأوركسترا»، ويمكن أن نعدّل البيت، لضرورات الموضوع فيكون: «عبثت بروحه»، إن جاز لنا ذلك. وبعد: يتأرجح المرء بين ابتسامة الأصدقاء الشعراء ورصانة ملامحهم، وهو يتساءل عن المصير المتربص بابتسامته على أغلفة كتبه الشعرية التي تسير بهدوء نحو «عتمة» حبر المطبعة و«بياض» أوراقها، تلك الأعمال التي تصدَّرت فيها كلمة «الخيول» عنوان الديوان الأول، وكلمة «الحبّ» عنوان الديوان الأخير!
أنت جميل وكبير دائماً. مع الشكر والتقدير لهذه المقالة الرائعة.
خسارة…. هذه الإبتسامة الحلوة أن تغيب عن أعمالك الشعرية.
ابتسموا ايها الشعراء فعندنا من الحزن ما يكفي
ومن ينسى ضحكات ممدوح عدوان
هعععع كلما تذكرت ضحكته
أجد نفسي أضحك ?
الضحك والشعراء :
ربما الشعراء من أكثر الكائنات الضاحكة
غير أنهم يخافون على ضحكاتهم من السرقة لذلك يخفونها فهي سلاحهم وزادهم ورفيقهم الوحيد .
(بالتوفيق في نشر أعمالك الشعرية الكاملة )
مروان خزري بوزيدي