لماذا لا يتعظ الأمريكان؟
يحيي اليحياويلماذا لا يتعظ الأمريكان؟من مفارقات الأمور حقا أن الدولة الأعظم، التي تملك أعتي مراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية (داخل الجامعات ومن بين ظهراني الكونغرس والوزارات) وتحتكم علي جهابذة التحليل السياسي والاستشراف الاستراتيجي، من مفارقات الأمور أن تكون هي ذاتها التي تتورط في الحروب والحملات العسكرية، فتنزلق بالمستنقعات تباعا، ثم تكابر بعدما تكون آلتها الحربية قد دمرت الأخضر واليابس، ثم تنجر بعد ذلك مجبرة للتفاوض مع غرمائها، فتسحب جيشها وقد تمرغت كرامته في التراب، ثم تعاود الكرة مرة أخري بجهة أخري من العالم كما لو أن شيئا لم يقع. ومن مفارقات الأمور أيضا أن تنساق دولة كبري كالولايات المتحدة الأمريكية بسهولة خلف أطروحات قائمة أو نظريات جاهزة أو إيديولوجيا صاعدة، فلا تضع القرار (قرار الحرب بالأساس) بميزان التداعيات والتبعات (عليها أولا وعلي ما سواها فيما بعد)، بقدر ما تضعه بميزان المصالح التي تعمي أمامها الأبصار، أو بميزان رؤي وتخيلات تتلاشي علي محكها البصائر. والحقيقة أنه لو اكتفي المرء باستحضار بعض من الحالات الكبري فقط، لتراءي له من خلالها أن أساطيل الفكر السياسي والاستراتيجي الأمريكي غالبا ما تبني لسياسات تبدو مدروسة في ظاهرها، لكنها غالبا ما تتكسر علي أرض الواقع… ولا تستخلص منها العبر والمواعيظ، لتفادي الأخطاء فيما هو منظور أو جاري العزم علي قيامه: ـ فالولايات المتحدة تورطت في المستنقع الفيتنامي، علي خلفية أطروحة مواجهة المد الشيوعي، وصد مداه في المهد قبل أن يجر في معسكره دولا وقارات، قد يتعذر معها فيما بعد أمر التساوق أو التعاطي أو الاحتواء. فإذا كانت الإدارة الأمريكية قد راهنت في حينه (في سبعينات القرن الماضي تحديدا) علي أسطول حربي ضخم تقشعر له أبدان ما سواه من أساطيل (حتي وإن كان أسطولا الاتحاد السوفياتي والصين مجتمعين)، فإنه لم يخلد بحسبانها قطعا أنها ستفاجأ بمقاومة عنيفة المبادرة، عنودة في القتال، متكئة علي حرب عصابات بالمدن والأحراش، غير آبهة بالمرة باستحقاقات الزمن الحربي ، وغير مكترثة فضلا عن ذلك، بسلطان جيش راودت قيادته أكثر من مرة فكرة اللجوء لمنطق الأرض المحروقة بغرض لجم المقاومة ودفعها للاستسلام. وبصرف النظر عن فداحة الخسائر التي طاولت الفيتناميين وفظاعات ما لحق بهم بشرا وحجرا، فإن خسارات غريمهم وضخامة التكاليف التي ألحقوها به إنما وضعت الأمريكان، بنهاية المطاف، بموضع المستعطف، الباحث عن تأمين مخرج يضمن ماء الوجه . فكان لهم ذلك، كما كان لسفيرهم هناك امتياز التقاطه من لدن هيليكوبتير عسكرية من فوق بناية السفارة، وأوراقه تتناثر من بين يديه، وهو يتسلق سلم الطائرة مهرولا مخافة أن تدركه ضربات مقاومة أضحت بضواحي العاصمة، بل باتت تتحكم في مفاصلها الكبري. يحتار المرء حقا في إدراك كيف أن الأمريكان لم يتعظوا مما وقع للفرنسيين من قبلهم، ولم يتعظوا من حادثة ديين بيين فو حين حاصرت المقاومة الفيتنامية مجموعات كبيرة من الجنود والضباط الفرنسيين الكبار، لتبيدهم عن آخرهم، مدشنة بذلك بداية العد العكسي للانسحاب الفرنسي من الهند الصينية. ـ والإدارة الأمريكية عندما تورطت بلبنان بداية ثمانينات القرن الماضي، لم تكن تدري (حتي وهي ذاهبة تحت مظلة القوات الأممية متعددة الجنسيات) أنها إنما تدخل حقا بشباك واقع محلي معقد كان الكل في ظله مع الكل ضد الكل… فكلفها ذلك أزيد من 240 جندي من البحرية في عملية واحدة، اضطرت في أعقابها للهروب دونما قدرة من لدنها علي وضع ترتيبات ما بعد الهروب إياه، أو القابلية علي المكابرة في سند الحلفاء. لم تكن الإدارة الأمريكية تدرك جيدا أن حساباتها (كما حسابات إسرائيل كما حسابات حلفائها الآخرين بالمنطقة) ستتكسر حتما علي صخرة كأداء، حتي وإن تسني لها خدمة حليفها الأكبر بالمنطقة عبر إبعادها للتهديد الفلسطيني المتواجد بقلب بيروت.ولم تكن تدري أنها بإرسالها لجنودها هناك (ترضية لإسرائيل بالمقام الأول) إنما تدفعهم لمصير محتوم، تأكد لها فيما بعد أن لا بديل عنه إلا بديل الهروب.بهذه الحالة أيضا، يبقي المرء حائرا أمام عدم اتعاظ الإدارة الأمريكية (بسياسييها ومخططيها وخبرائها العسكريين)، ومجاراتها لطروحات غالبا ما لا تستحضر تعقيدات المعطيات المحلية أوحسابات الغرماء بعين المكان. ـ لم يمض، علي ما جري ببيروت، إلا بعض من الزمن حتي رأينا الولايات المتحدة الأمريكية وقد زجت بجنودها ببلد إفريقي (بالصومال بداية تسعينات القرن الماضي)، تتجاذبه أحزاب وملل، وتتداخل بحربه الأهلية عناصر الجوار وحسابات الدول والتنظيمات، وتتحرك في ظله ميليشيات وجيوش مرتزقة، ويتسابق الكل علي مغانم وهمية، فيما المجاعة والتقتيل الجماعي يضربان الأطناب بكل جهات البلاد. وعلي الرغم من نبل الشعار المرفوع في حينه من لدن بوش الأب (عملية إعادة الأمل )، والزج بما يناهز الثلاثين ألفا من الجنود، مدعمين بأكثر من عشرة آلاف أخري من قوات حفظ السلام الأممية، فإن تجاوزات الجيش الأمريكي والإمعان في مطاردته لزعيم حرب قبلي بات لديها ولكأنه السراب المقنع (الجنرال عيديد أقصد) قد جرت عليه مقتل 18 من جنوده، والتنكيل بجثــــث بعضهم علي مرأي ومسمع من وسائل الإعلام، دفعه (الجيــــش الأمريكي أعني) للانسحاب مهرولا، بعدما تأكد له أن الصوماليـــــين قد يقبلون ببعض من الفاقة والجوع، لكنــــهم لن يقبلوا بالقطع باستباحة كرامتهم، أو الاستهانة بما تبقي لديــــهم من مكابرة وعنفوان…عربيان بالأساس. بهذه الحالة أيضا، حالة الصومال، يحتار المرء حقا في خلفيات صاحب القرار الأمريكي وفي الآية من تبرمه عن الاتعاظ بما جري له من ذي قبل… سيما لو كان هذا الذي قبل غير بعيد في سلم الأحداث. وإذا كان السلوك الأمريكي، زمن ثنائية القطبية وضغط بعض موازين القوي في العلاقات بين الدول، غير مكترث بالعبر والمواعظ من داخله أو من الخارج، فإنه من الطبيعي أن يزداد السلوك إياه تشنجا وتعصبا (و شرعية موضوعية يقول البعض) بعد تهاوي الاتحاد السوفياتي وتقوض منظومته المحيطة، وتكرس واقع القطبية الأحادية، وتمركز سلطان القوة بمطلقها بين يدي الأمريكان دون اقتسام لذلك مع ما سواهم من منظومات. وعلي هذا الأساس، فلو سلم المرء بحقيقة ما جري يوم الحادي عشر من سبتمير، واعتبر (بحق أو بالتجاوز) أنه يؤرخ لحادثة مفصلية كبري تكسرت علي محرابها هيبة الأمريكان (سيما وقد باتوا الأوحدين بالساحة)، فإنه لا يستطيع إلا أن يسلم بأن ما نتج عنها من ردود فعل، لم يتعظ من تجارب الماضي، ولا اتخذ من الوقائع التاريخية الدروس والعبر: – فغزو أفغانستان واحتلالها، ارتكز علي العفوية الخالصة وعلي غريزة في الانتقام من منظمة تبنت جهارا عملية ضرب البرجين والبنتاغون، وحكومة (حكومة طالبان) صنفت منذ اليوم الأول ضمن الأغيار ، ولم تتلكأ فيما بعد في الاستمرار في حماية الشيخ أسامة بن لادن شخصا وتنظيما. بالتالي، فقرار الحرب علي تنظيم القاعدة وعلي حكومة طالبان، إنما تأتي للأمريكان كرد فعل طبيعي من حق أي كان امتطاءه، فما بالك لو كان القوة الأعظم عدة وعتادا. وإذا كان من تحصيل حاصل الاعتقاد (في حينه كما بالوقت الراهن) بيسر عملية قلب نظام الحكم بأفغانستان، وتقويض أضــــلع تنظيم القاعدة وإقامة نظام عميل للأمريكان هناك، فإن نصف عقد من الزمن علي ذلك لا يشي لحد الساعة علي الأقل، بأن تنظيمي طالبان والقاعدة قد قوضا أو زعماءهما قتلا أو سجنا، بقدر ما تحولت البلاد (ودول الجوار أيضا) إلي ساحة حرب بامتياز، لم يستطع الأمريكان التصدي لها، أو الذود عن قواعدهم ضد ضربات المقاومة الأفغانية وتقدم عناصرها علي أكثر من جهة ومحور. بحالة أفغانستان (كما بالحالات السابقة عليها) يبدو أن الأمريكان لم يكونوا علي إدراك تام بتبعات ما هم عازمون علي تنفيذه، ليس فقط بدليل تزايد خسائرهم هناك، وانسداد أفقهم أمام مقاومة امتهنت حرب العصابات منذ مواجهتها للسوفيات، ولكن أيضا بدليل استعطاف الأمريكان المستمر لحلف شمال الأطلسي (وللدول غير المنضوية تحت لوائه أيضا) لإرسال قوات دعم إضافية أوالإسهام في تمويل العمليات الحربية هناك. ـ وغزو العراق ثم احتلاله، علي خلفية ادعاء باطل بإخفاء الرئيس صدام حسين لأسلحة دمار شامل وعلاقة مفترضة له مع تنظيم القاعدة، لم يترتب عنه فوضي كبري شملت البلاد جملة وبالتفاصيل، بل أدي إلي انفجار مقاومة أضحت بعد مرور أربع سنوات علي الاحتلال معطي لا يمكن التجاوز عليه، أو غض الطرف عن قوته وأرجحية مطالبه. بحالة العراق (كما بحالة أفغانستان) لم يضع الأمريكان في حسبانهم ردود فعل أصليين من السكان لم يتساوقوا بالمطلق مع حسابات المحتل، ولا ارتضوا لأنفسهم العيش تحت نير الاحتلال. وإذا كانت خسارة الجمهوريين للانتخابات النصفية بنونبر الماضي، قد عبرت بوضوح عن فشل سياسة بوش الإبن بالعراق (وبأفغانستان)، فإن انصراف مستشاري البيت الأبيض عن رئيسهم وتراجع العديد من الخبراء الاستراتيجيين عن دفوعاتهم بجهة الحرب بداية العام 2003 (بمن فيهم كيسنجر وبرززنسكي) إنما تشي بالورطة الكبري التي باتت الإدارة الأمريكية بصلبها، بل قل محكومة في ظلها بردة الفعل الطائش أكثر من حكمة الفعل المتزن. لماذا لم يتعظ الأمريكان من الفيتنام ولبنان والصومال وأفغانستان والعراق، وتمادوا في مكابرتهم وادعائهم ب النصر السريع كلما عزموا علي غزو هذا البلد أو ذاك؟ لماذا لم يأخذوا العبرة مما جري لهم بالماضي القريب، ولا ينوون (بخطابهم تحديدا) الاتعاظ من ذلك فيما هم مقبلون عليه من عزم علي ضرب إيران واستهداف سوريا؟ يبدو أن ثمة أربعة عناصر كبري، تحول دونهم ودون أخذهم بمبدأ الاتعاظ في الخطاب كما علي مستوي السلوك بالأرض:ـ الأول ويكمن في الجهل الكبير بطبيعة غرمائهم، وخاصية الاستقواء (لدرجة الاستئساد) التي تعمي بصائرهم وبصائر قادتهم، فينساقون خلف تصورات وإيديولوجيات محكومة بمصالح آنية أو مستقبلية، ولا يتساءلون بجانب التداعيات والتبعات إلا وهم بالورطة الكبري متلبسون. ولما كانت الدول المراد غزوها واحتلالها ضعيفة بالأصل، أو سهلة المنال بميزان القوة العسكري، فإنه غالبا ما يصيب بصرهم وبصيرتهم العمي، حتي إذا تكسرت تصوراتهم واتضح سوء تقديرهم بمحك واقع الحال، حاولوا استدراج غرمائهم للتفاوض، أو استنجدوا كما بحال العراق، بالجيران للإسهام في إخراجهم من المستنقع أو التخفيف من وطأته. ولما كانت كل حروب أمريكا (منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية) موجهة بجهة دول أو أشباه دول، فإن خبراءها غالبا ما استهانوا (ولا يزالوا) بمقدراتها أو اعتبروا (ويعتبرون) غزوها مسألة قرار ليس إلا، من غير المجدي بالتالي مساءلة جانب الروية أوالتأمل، أوحساب الأمور بموازين الخسارة والربح ماديا وعلي مستوي الهيبة والكبرياء.ـ العنصر الثاني ويتمثل في فائض القوة العسكرية (والمادية بوجه عام) التي تتمتع بها الولايات المتحدة منذ أواسط أربعينات القرن الماضي، والتي تدفعها للاعتقاد برجحان الكفة لصالحها وحتمية انتصارها بأي حرب أو مواجهة، وتقهقر أعدائها أمامها حتي وإن تسني لها شن حربين أو أكثر بالتزامن. بهذه النقطة، يندر حقا أن يعثر المرء علي سياسي أمريكي (من كلا الحزبين) أو علي منظر أو باحث في القضايا الاستراتيجية، لا يركز علي جانب التفوق العسكري واستحالة الهزيمة من بين ظهراني دولته أو جيشه. ولهذا السبب، فغالبا ما يجد المرء نفسه هنا بإزاء منظومة فكرية وسياسية متراصة حول القوة والغلبة، مستهينة بقوة غرماء ينظر إليهم حفاة بالفيتنام، أو جياعا بالصومال، أو عراة بأفغانستان، أو منهكين بالحصار في حال العراق، ولا تستحضر ما قد يصدر عن هؤلاء من ردود فعل قد تذهب حد التنكيل بأجساد جنودهم وهم ميتين. ـ أما العنصر الثالث فيكمن في جانب الجشع اللامتناهي الذي تبديه لوبيات المصالح الكبري، وتدفع السياسيين إلي اعتماده كمنظومة حكم في السياسة الخارجية بإزاء الأعداء كما بإزاء الأصدقاء سواء بسواء. بهذا الجانب، يصعب حقا علي المرء التمييز بين السياسيين وأرباب المصالح الخاصة، برئاسة الدولة كما بالكونغرس، بل قل إن لا حظ لسياسي في بلوغ سدة الحكم أو ولوج أحد المجلسين، إن لم يكن مدعوما بقوة من لدن النفوذ الاقتصادي أو يحتكم علي جزء من ذات النفوذ. قد لا تكون المصلحة (بحال أفغانستان أوالعراق مثلا) كامنة في التموقع الجيوستراتيجي علي تخوم آبار النفط والتجارة الدولية، بل قد يكون بموازاة وذلك، خدمة مصالح لوبيات محددة (مصالح اللوبي اليهودي بإزاء غزو العراق واحتلاله) أو تضييقا علي صعود أمبراطوريات تبطن التهديد القادم كما الحال مع الصين.ـ العنصر الرابع ويتراءي لنا مضمرا في جانب الغرور وعقدة العظمة التي غالبا ما تلازم الرؤساء الأمريكان، وتتداخل بقوة في تكوين شخصياتهم وطبيعة نظرتهم لحال العالم ومآله. إذا اجتمع (في ذات الرئيس الأمريكي ومحيطه) عنصرا الجهل والقوة وامتزجا بعنصري الجشع والغرور، فمعني ذلك إعماء للبصر وإجهازا علي البصيرة. كيف يطلب من بوش الإبن أن يتعظ إذن وهو أعمي البصر والبصيرة؟ہ باحث وأكاديمي من المغرب[email protected]