ستجد في أي مكتبة ما لا يقل عن عشرة إصدارات تحمل العنوان نفسه تقريبا: ‘كيف تقرأ’، إن أمسكت بأي منها وجلست فإنك لن تسلم من نظرات الاستغراب أنك تقرأ كتابا يعلمك كيف تقرأ كتاباً، لكننا في الحقيقة بحاجة أحياناً لأكثر من ذلك بكثير.
قد يتعجب البعض أن تكون هناك وسائل للقراءة الناجحة أو الفعالة، وأن تكون هناك طرق لإفشالها. إن قراءة الكتب بالذات لها من الطقوس ما يكفي لتبدو تجربة فريدة وذات أثر إيجابي، وقد يفسر ذلك ارتباطً الأديان بالكتب التي حملت تعاليمها، وتحول قراءتها إلى شعائر، أو أن العكس حدث وانتقلت شعائرية القراءة للدين. المهم أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الاثنين، ومما لا شك فيه أن عملية القراءة تنقلنا لفضاء لا متناهٍ من تصورات وتجليّات الوجود. وقد نشرت عدة مجلات علمية مرموقة مؤخراً دراسات تؤكد على فوائد القراءة، من بينها أنها تحفز القدرة على قراءة أفكار الآخرين، وتقلل نسبة الإصابة بالخرف ‘الزهايمر’ بشكل كبير.
لكن ما لا يعلمه البعض أن العجز عن القراءة بفعالية صار ظاهرة عالمية تعاني منها العملية التعليمية خصوصاً لاعتمادها على الكتاب لإيصال المنهاج، ولذا فإن أبحاثاً تجرى سنوياً لإيجاد طرق أفضل للقراءة، تؤدي إلى الاستيعاب أو على الأقل إلى أن تكون القراءة تجربة نافعة.
لا يختلف الأمر عندما تكون القراءة اختياراً طوعياً وهواية لملء الوقت، فهي تصطدم غالباً بعادات سيئة وأخرى تتعلق بطريقة التلقي، مما يجعل القراءة تجربة تفشل باكراً، ويغدو المتلقي قارئاً لا يستفيد، أو ناقداً عاجزاً عن النظر إلا من ثقب قناعاته المحدودة.
إن أول أمر إلهي حمله النص القرآني كان ‘إقرأ’ ثم قسّم نتائج القراءة باتجاهين، اتجاه يتفكر في الكون والإبداع الخَلْقي ليتيقن أكثر من وجود الخالق ‘إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق’، أي أن يجد الكينونة العظمى ‘اللامرئية’ من خلال كل شيء يراه ويتلمسه، واتجاه يتعلم الجديد من خلال عرض الافكار وجدال الأقلام ليستشرف مسارات المجهول ويفهم ما حوله ‘إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم’، وبذلك يوجه النص القارئ باتجاهين واضحين. ويتضح أن الهدف الأسمى منهما أن نستشعر العالم من حولنا حتى نفهم ذواتنا أكثر، لأننا من دون فهم ذواتنا لن نجد الله.
في المقابل، فإن أي كاتب عندما ينشر كتاباً فإنه في الحالات الاعتيادية يعرض تجربة يريد من الآخرين أن يروها من الزاوية نفسها التي رآها بها، إلا لو أراد غير ذلك. تتعدد اسباب الكاتب وإن كان الحيز واحداً، وهو ذاتية تجربته وفَرادتها. أما نحن عندما نقرأ، ‘نقرأ لنعرف أننا لسنا وحيدين’ كما قال ويليام نيكلسون.
يُفشل القراءة منذ لحظتها الأولى أنْ يقرأ المرء ليثبت لنفسه أنه كان ولايزال يرى الأمور بطريقة أفضل، لأن القارئ بذلك يتناول الكتاب من زاويته هو لا من زاوية الكاتب، مما يموّه الصورة التي كان يجب أن يرسمها نص الكتاب وموضوعه عند المتلقي، فتكون الصورة معزولة تماماً إلا عن أفكاره المسبقة، ما يعني أن التجربة تلتف في تلك الحالة على نفسها وتتقوقع داخل القارئ من دون حصوله على فهم جديد أو معرفة مختلفة عما كان يعرفه قبل ذلك. سيقول قائل إن ما سبق فائدة بحد ذاتها، لكن عليه أن يعترف بأنها فائدة تتواضع أمام محدودية الأفق الذي نتج عنها. يشبه الأمر أن تشتري سيدة كتاباً عن الطبخ وتتبع خطوات عمل ‘الكبسة’ لكنها وعند الخطوة التي تميز وصفة ‘الشيف’ عن غيرها، تتدخل للعودة لوصفتها الخاصة، لاعتقادها أنها تعرف أكثر، أو أن وصفة الشيف لن تجعل الكبسة ألذ. وهكذا تقتصر فائدة شراء السيدة لكتاب الطبخ على أنها عززت شعورها وغرورها بأنها تطبخ أفضل من الشيف. هذا ما يبحث عنه بعض القراء في ما يقرأون: ان يعززوا ذواتهم المهزوزة أو الباحثة عن الاعتراف والتقدير. وهؤلاء يقرأون أنفسهم في صفحات كل كتاب بالطريقة نفسها، ليصلوا للنتيجة نفسها، من دون أن يكون لمحتوى الكتاب دور في ذلك، بل لاستنتاجهم المشبع بالغرور، أو النقص، أنهم سيجدون دليلاً لقناعاتهم المسبقة في كل كتاب يقرأونه. وهكذا، ترى بعض القراء يحكمون على النص حكمهم على الأشخاص، فيعجزون عن السماح للكتاب أن يحسّن حياتهم كما عجزوا عن أخذ حيز في حياة غيرهم وأصروا على ألا ينظروا للآخرين إلا بحكم مسبق.
ليس مفترضا بما سبق أن يحدث. إن تعزيز الشعور الذاتي بالرضا لا يجب أن ينطلق من اعتقادنا الجزافي بأن ما عندنا أفضل، بل من امتناننا أن تجاربنا لها قيمة عظيمة تلمسناها فعلاً، وكذلك تجارب غيرنا. يجب أن نستفيد من حقيقة أن التجارب تختلف من شخص لآخر، وأننا باستفادتنا من تجارب الآخرين والنظر من خلالها نقطع شوطاً كبيراً في فهم الحياة، من دون حاجة ماسة لعيش التجارب كلها، على الأخص لأننا لا نستطيع عيش تجارب الآخرين بالطريقة نفسها، فنحن نختلف عن بعضنا بعضا عند بدء أي تجربة ولذا تختلف نتائجها علينا.
إن الامتنان لا يتولد من تغذيتنا لذواتنا فقط، لأن هذا ما جعل كثيراً من عشاق ‘تنمية الذات’ يتحولون إلى مسوخ نرجســـية وفقاعات تنفجر عند ملامسة أي شيء حقيقي، لأنهم اعتقـــــدوا أن تنمية الذات هي نفسها نفـــخ الذات، وأنك يمكن أن تغش نفسك وتوهمها بالنجاح أو التفوق حتى يصبح الوهم حقيقة. لا يكفي أنْ تقنع نفسك بأي شيء بالنظر في المرآة، ومن الخطر أن توهم نفسك أنك ـ وحدك- النموذج ساري الصلاحية له، مع أن قدمك لم تبتعد قيد أنملة عن حيز جسدك الضيق العاجز عن تغيير زاوية رؤيته، فقد يتضح أن ما وراء عينيك أكثر دفئاً من الظل الذي تقف تحته، أو حتى ظلك الذي يتمدد منك عندما تسطع الشمس.
‘ كاتب وإعلامي إماراتي
قراءة جميلة ومعمقة نحتاجها في هذا الزمن المكتظ بالأحزان والتتشرذم
بارك الله فيك أيها الكاتب النابغة لقد قرأت لك هذا المقال الثاني في قدسنا العزيزة وهما مقالان ذوات عمق ودلالة .وهنا لابد من أن أشير إلى أن مقولة الشاعر نزار قباني من أن بئراً من النفط يمكن أن ينتج مليون برميل من النفط ولكنه لن يستطيع أن ينتج متنبي واحد ،أقول أن هذه المقولة سقطت عندما نقرأ لكتابٍ عظام كالاستاذ الهاشمي حفظه الله