لماذا نقرأ الأدب؟

«اليوم هو الأحد، الثالث من رمضان، 28 تشرين الأول/أكتوبر 1973 عند ساعة الفجر- ساعة التجلّي الإلهي ـ وإنّي لعلى ثقة من أن الله كان يصحبه على هذا النحو دون أن أستشعر ذلك، إذ ما شأني في ما يجري بينهما؟!». الكلام لسوزان طه حسين تروي ساعات الأديب الأخيرة، في كتابها الذي ألّفتْهُ بالفرنسيّة، وكان يحمل هذا العنوان الفريد: «معك» واشترطت على الناشر أن لا يُطبع وينشر إلا باللغة العربيّة، لغة طه حسين: «كان هذا الوجه جميلا، ولم يكن له ـ شأنه شأن جبهته ـ ثلاثة وثمانون عاما! وكانت ترتسم عليه هذه الابتسامة الرقيقة التي كنّا نحبّها، وكان الشَّعرُ الذي بقي كثيفا، يكاد يكون رماديّا، أما الجسد، فقد كان يستسلم للراحة بهدوء».
ظلّ طه حسين محتفظا بعاداته إلى الأخير. أنهى سكرتيره دوامه الاعتيادي في ذلك اليوم عند الثامنة مساءً، وأخذتْ عنه سوزان لمّا غادر المنزل مهمّة القراءة. كان الخريف على الأبواب، والأشجار ساكنة لا تهتزّ لها ورقة، وروائح الزهور تملأ الجوّ. في تلك الليلة بدتِ السماء في النوافذ بيضاء بشكل غريب: «قرأتُ له بعد العشاء الصحف المصريّة والفرنسيّة، بالإضافة إلى ذلك طلب منّي أن أترجم له الصحف الإيطاليّة الصادرة في المساء إلى الفرنسيّة».

٭ ٭ ٭

نحن نقرأ الأدب كي نرى كلّ شيء في القاع بوضوح كأنما فوق الأكفّ. نحن نقرأ الأدب، لأنه يمنحنا هدوء النفس والحكمة الصافية في القلب. نحن نقرأ الأدب كي ننسى الآثام والجنون في الواقع، وكذلك الشعور بالمرارة والعدم. نحن نقرأ الأدب كي لا تنزعج الطيور والظِباء والحيتان من حماقات البشر وتغادر الأرض دون رجعة. نحن نقرأ الأدب كي نصارع الوحوش في لا وعينا، وننتصر. نحن نقرأ الأدب لأن العالم يتلاشى بخلاف ذلك كما لو أن ألف قنبلة ذريّة تضرب كلّ ملليمتر منه في كلّ ثانية. نحن نقرأ الأدب من أجل أن يبقى الياسمين الأصفر أصفر والأبيض أبيض ، ومن أجل أن تثغو الخراف وتمتلئ أثداء الكلبة بالحليب للجراء الصغيرة العمياء.
نحن نقرأ الأدب ليعود التلاميذ إلى البيوت من المدارس يهرولون عبر الحصى مردّدين أناشيدهم، والسحب والشمس تحرسهم والرياح تهديهم الطريق عند انحنائه. نحن نقرأ الأدب كي نسافر في السماء الصافية إلى الله عبر تلال الشهداء. نحن نقرأ الأدب كي تبلغنا متعة الطعام والباه في بيوت مزيّنة بأكاليل الأزهار، حيث تتشكّل معظم قصائد الشعراء.

٭ ٭ ٭

على الرغم من حرصه للمحافظة على أسلوب حياته، في الأيام الأخيرة كانت تمرّ على طه حسين أوقات يعاني فيها من «آلام مرعبة في الجبهة» فيسقط مغشيّا عليه، ثم يتيقّظ فجأة ويطلب من مساعده الاستمرار بالقراءة، بعد أن تكون زوجته قد رفعت رأسه فوق وسادة ثانية، وعيناها مليئتان بالحزن وبألم الفقدان. يا له من إصرار عجيب على الشغف بالحياة عن طريق القراءة! الكتابان اللذان صاحبا أديبنا في أسبوعه الأخير هما «الملل والنِحل» لأبي فتح الشهرستاني، و«مذكرات كافكا» تحرير ماكس برود باللغة الفرنسيّة. بعد قراءة الصحف بحثت الزوجة في الإذاعات وعثرت على سمفونية فاوست لفرانز ليست. «تناولَ عشاءه الأخير، وكان عبارة عن حليب مع البسكويت والعسل. أحسّت بقلبها ثقيلا، وقرأتْ له بعد ذلك مقالات من صحيفة «كورييه دو لاسيرا». وأخيرا: «وبما أن اليوم كان يوم أحد، وكنتَ طلبتَ لي أن ألتقط لكَ إذاعة لوزان، فقد بحثتُ عنها ووجدتُها، وكانت تبثّ سمفونيّة براغ. ثم أغلقتَ عينيك بعد قليل لكن نغمات صوتك ما زالت على رقّتها، وكان إطراء شفتيك القاتمتين المجعّدتين العذب لي أحلى من مدائح الملائكة». وعدتْه أنها لن تبكي، وأنها سوف تصلّي من أجله ولكلّ القديسين كلّ يوم، وكانت تُصغي برعب إلى أجنحة الجراد في صدرها، ولم تحتمل الروح احتمال كلّ هذا الألم، وتراءى لها أن الجدران تتوهّج من الأرض حتى السقف. قالت: «يا ربّي هو ذا عبدك فتقبّله». لا تتذكّر سوزان أين قرأت عن الراهب الذي حضره الموت في مساء يوم مطير، ووجد نفسه راقدا في قمة الجبل القابع في البعيد، متوّج الهام بأشعة الشمس.

٭ ٭ ٭

الحياة مملّة ومليئة بالغموض المظلم بنحو يبعث على اليأس، ويُثير فينا الأدبُ والموسيقى الدهشةَ المطلقة بأدوات بسيطة للغاية؛ الكلمات والنوتات، وهذه عبارة عن أصوات لا غير، أكثر خفّة من الدّخان والأفكار والنوايا، بل هي هواء في شبك، وريح في قفص. نحن نقرأ الهواءَ في الشبك لأن الواقع مملّ بصورة فظيعة، كما أن أشدّ ما يُغيظ النفس المُبدعة هو الشعور بالوحشة والضجر، يُفاقم هذان العدوّان المرضَ ويعزّزان أعراضَه أيّا كان مصدره. وقلوبنا ترفرف كالطيور وتزداد لوعة، نحن نقرأ الأدب كي نتعطّش للحبّ أكثر وللنبيذ المعتّق، وكذلك للملح الخشن تُلقي به الأمواج على شراع المركب، فيغدو نسيجه مضاعفا على الأقلّ مرّتين أو ثلاث مرات، وكان للبحر نبض هادئ في البدء، ثم عصفت الرياح واسودّت السماء، وانقلب الموج إلى ثيران هائجة تطلبُ الثأر، بكلّ معنى هذه الكلمة، ونحن نتأهّب لأن نلاقي مصيرنا. لكن الكفاح الإنسانيّ الشاقّ يتحوّل المرء من خلاله شيئا فشيئا، ويا للبهجة! إلى فنّان غايته الخلود. نحن نقرأ الأدب كي ندخل جنة مملكة الفنّ، أو نراها ولو من بعيد.

٭ ٭ ٭

قرأتُ كتاب «الأيام» لطه حسين ثلاث مرّات، وأعدتُ قراءته هذه الأيّام، وزاد مفعول السّحر عن السابق لأسباب ليس آخرها أن أديبنا لم يكن إنسانا اعتياديّا، بل هو شخصيّة، كأنما خرجت من بطون القصص؛ طفلٌ فقيرٌ أعمى يتعلّم في الكتاتيب، ويشبّ وينجح في الدراسة. سافر إلى السوربون ونال شهادة عليا، والحرب العالميّة الأولى قائمة على ساقين. تزوّج من فتاة فرنسيّة، وعاد بها إلى صعيد مصر، لتسير مع أبيه في الشارع شابكةً ذراعه: «قال عمّي لابنه: سأخرج مع زوجتك فلا تنشغل بنا. تناول ذراعي، وقمنا معا بجولة في البلدة. لن يبدو أمرا لشباب اليوم أن يتنزّه شيخ وقور مع امرأة سافرة أجنبيّة ومسيحيّة، وتعتمر القبّعة! لكنه كان كذلك في تلك الحقبة». استقبله الخديوي بحرارة لأنه أولّ مصريّ ينال شهادة الدكتوراه، وأصبح أستاذا في الجامعة، وتمرّ عليه السنين وهو فرحٌ للغاية لأن طلابه كانوا «يعضّون على الأدب الإغريقي، وتلك ثورة في التعليم، كما يُنظر لها آنذاك». قاد هذا الشابّ الكفيف موجة الحداثة التي سوف تغيّر الثقافة في الأوطان التي تتكلّم العربيّة، وعُيّنَ وزيرا ودخل معارك في السياسة وفي الأدب، وانتصر فيها جميعا…

٭ ٭ ٭

نحن نقرأ الأدب وإلا سيهلك العالم فنحن لا نؤمن بأيّ قوى سحريّة منقذة. سِحرُنا هو عملنا في هذه الحياة الزوّالة، وكلّ ما نقدر عليه أننا نقرأ الأدب، كي نثبت لأنفسنا أولا، وللعالم أيضا، أنّ الحريّة أهمّ عطايا الوجود. عندما تضيع الحرية يُفقد الشرف، وعندها تكون الحياة بلا معنى ولا طعم ولا شكل، ويغدو البشر بهائم في قفص، بينما تستحيل البيوت مع الحريّة معابد…
سحبٌ نائمةٌ فوقي وأنا جالس في «حديقة الشعب» في مدينة السليمانيّة في كردستان العراق، والوقت كان أوّل الفجر، وبين يديّ كتاب. أستطيع أن أقول إني راضٍ عن دوري في الوجود، لأني اخترق أعماق الحياة دون ان تحجزني جدران صمّاء عالية، ولأني بعيد كذلك عن الملل البائس في حركة الجموع، عندما يصحون بعد ساعة وينتشرون في الطرقات، مثل نقاط سود تعكّر صفاء لوحة المدينة، مرسومة بالزيت على الكانفاس.
ثم طلع النهار واندفعت العجلات تقطر في الشوارع، وبدل الوضوح الذي ينشره ضياء الشمس، لفّ الضباب والدخان محيط اللوحة، بسبب ازدحام العجلات وانتشار الناس، فأطلقتُ على التشكيل الجديد للّوحة هذا العنوان: «ما بقي من الحلم». الناس نيام فإذا قرأوا صحوا وانتبهوا. نحن نقرأ الأدب لأننا نقارب الأشياء بعد أن نكون قرأناها في كتاب. لا أستطيع أن أنظر الشمس ما لم أطالعها في قصيدة أو أغنية أو لوحة، وكذلك الحال بالنسبة للشجر والمطر والرياح… وأقربُ ما في الوجود إليّ امرأتي. كيف يمكن أن أعيش حبّها ما لم يشهد عليه كتاب؟

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية