قد يحار المرء في فهم ذلك الدعم الأعمى الذي لا يتردد كثير من الأوساط السياسية والثقافية والإعلامية في الغرب في المجاهرة به تجاه الكيان الصهيوني، إلا أن هناك العديد من العوامل التي تقف خلفه، ويمكن إجمال أهمها في ما يلي:
كما هو ثابت، كانت حياة اليهود في الغرب جحيما حقيقيا لعدة قرون، فقد كانوا يتعرضون هناك لكل أشكال الاضطهاد والتمييز والاحتقار والنبذ. وكانت الصورة النمطية المهيمنة لهم في منتهى البشاعة والسوء، فقد كانوا يتهمون بأنهم قتلة المسيح عليه السلام، وبأنهم يقفون خلف كل ما في العالم من مظاهر التآمر والسقوط الأخلاقي، بوصفهم يديرون الأنشطة المدمرة للمجتمعات، ولعلكم تتذكرون شخصية «شايلوك»، التاجر اليهودي الجشع بصورة غير معقولة، الذي صوره وليم شكسبير، أشهر الكتاب في تاريخ الغرب، في مسرحية «تاجر البندقية» الشهيرة، للتدليل على الصورة المنفرة الماثلة في أذهان الغربيين نحو اليهود. وقد توج الغرب جرائمه ضد اليهود بالسماح باقتياد ثلة منهم قبل عقود إلى محارق الغاز على يد النازية، وليدة الفكر والمجتمع الغربي، التي ما تزال أفكارها العنصرية متجذرة في عقول الكثير من أبناء الغرب، مهما ادعوا النبل والإنسانية. فهم لم يتحرروا أبدا من مثل تلك الأفكار المريضة، وإنما حولوا وجهتها فقط باتجاه العرب والمسلمين، بدلا من اليهود!
بسبب ما ارتكبه الغرب من جرائم معنوية ومادية بحق اليهود كما تقدم، أصيب بعقدة ذنب مزمنة نحوهم، ونحو الكيان الذي أقاموه لهم على أنقاض فلسطين، فبات المساس بذلك الكيان خطا أحمر لا يغفر لمن يجتازه، مهما كانت المبررات. وكأنهم بذلك يحاولون تعويض اليهود عن بعض ما فعلوه بهم!
في أواخر القرن الرابع الميلادي قررت الكنيسة وضع ما سمته بالعهد القديم، أو النسخة المتداولة مما يقال إنها التوراة، في دفة كتاب واحد مع العهد الجديد، أو ما ترى أنه الإنجيل. أفضى ذلك إلى إجبار المسيحيين على النظر إلى التراث الديني اليهودي والمسيحي كوحدة واحدة لا تتجزأ، وأن اليهود هم أهل فلسطين الحقيقيين، ما داموا قد وعدوا بها من الله، ولو كان ذلك منذ آلاف السنين! ومع أن ذلك لم يلغ اعتقاد أكثرهم بأن اليهود هم الذين صلبوا المسيح عليه السلام، وأن اليهود لا يؤمنون أساسا بالمسيح، إلا أنه جعل الكثير منهم يشعرون بأن هناك نوعا من القرابة الروحية والأصول الحضارية والدينية المشتركة بينهم وبين اليهود. من جانب آخر، لا بد من الإشارة إلى أن الكثير من المسيحيين يبغضون اليهود في حقيقة الأمر، إلا أنهم يدعمونهم دعما مطلقا بالانطلاق من مقولات ونبوءات دينية، تذهب إلى وجوب دعمهم ودعم كيانهم المزعوم، لأن ذلك يعد شرطا ضروريا لا بد منه لنزول المسيح مجددا إلى الأرض، وسحق المجرمين الذين لم يؤمنوا به وحاربوه، ومن بينهم اليهود! فهم لا يدعمون ذلك الكيان وأهله محبةً بهم، وإنما للتعجيل بعودة المسيح، ولجعلهم وقودا لعقابه الكاسح الذي لا يبقي ولا يذر!
بسبب ما ارتكبه الغرب من جرائم معنوية ومادية بحق اليهود، أصيب بعقدة ذنب مزمنة نحوهم، ونحو الكيان الذي أقاموه لهم على أنقاض فلسطين، فبات المساس بذلك الكيان خطا أحمر
منذ إنشائه عنوة على حساب فلسطين وأهلها، ورغم الجرائم الفظيعة التي لم يتوقف يوما عن ارتكابها ضد كل ما هو إنساني وأخلاقي وشرعي ونبيل، حرص إعلام الدول المتآمرة التي أقامت الكيان الصهيوني على فبركة وترويج صورة خادعة وزائفة لذلك الكيان، بتصويره واحة للديمقراطية والحرية والعلم والتحضر والازدهار، وكأنه قطعة من الغرب، وسط صحراء مقفرة تهيمن عليها دول قمعية متخلفة، تتأبط شرا وتتحرق شوقا لتدمير ذلك الكيان ورمي أبنائه «الأبرياء المساكين» في البحر! وعلى الرغم من الصحة الجزئية لتلك الصورة، وخاصة فيما يتصل بتخلف المحيط العربي وافتقاره تماما للحرية والديمقراطية، ورفضه التام للكيان الدخيل المتطفل الذي أُقحم على العالم العربي بالقوة، إلا أنها تظل صورة كاذبة ملفقة بكل تأكيد، فالكيان الصهيوني هو كيان عنصري بامتياز، يطبق نسخة مشوهة وهشة وشكلية من الديمقراطية، بينما ينقضها بما لا حصر له من الإجراءات المريعة، التي تعصف بقيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، ضد العرب، وبدرجة أقل ضد اليهود الشرقيين. على كل حال، نتيجة لفرض تلك الصورة المختلقة على العالم من جانب وسائل الإعلام العالمية الكبرى التي يسيطر اليهود على كثير منها، استقر في وعي الكثير من الغربيين أن الاعتداء على الكيان الصهيوني، أو تهديده يشكل اعتداء لا يمكن القبول به على قيم الحرية والديمقراطية التي ينادون بها، ولو كذباً!
حسب دراسة أجريت قبل سنوات، تبين أن الإنتاج البحثي الأكاديمي في جامعات الكيان الصهيوني يفوق إنتاج نظيره في الجامعات العربية بحوالي مئتي ضعف، هذا من حيث الكم، ودع عنك النوع! وبين عامي 1905 – 1922، حصل ما لا يقل عن 222 يهوديا، أو من أب أو أم يهودية، على جائزة نوبل! وبإجراء دراسة سريعة حول المواقع التي وصلها اليهود في الدوائر السياسية والأكاديمية والإعلامية في أهم بلدان العالم، نجد أنهم قد استطاعوا الوصول إلى الكثير من المناصب القيادية المتنفذة، التي تمنحهم القدرة على التأثير وفرض توجهاتهم السياسية إلى حد بعيد. فعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك الكثير من اليهود الداعمين للكيان الصهيوني ممن استطاعوا الوصول لإشغال مناصب رفيعة للغاية في إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن، منهم: وزير الخارجية، نائبة وزير الخارجية، نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية، مديرة المخابرات الوطنية، وزير الأمن الداخلي، مديرة الأمن السيبراني في وكالة الأمن القومي، كبير موظفي البيت الأبيض، وزير العدل، وزيرة الخزانة، الخ. ناهيك عن عشرات الأعضاء في مجلسي النواب والشيوخ، وعلى رأسهم زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ! شئنا أم أبينا، نجح اليهود في إثبات اجتهادهم وتفوقهم حتى شغلوا مثل تلك المواقع، التي مكنتهم من التحكم في مفاصل صنع القرار في أهم دول العالم. نقول ذلك في ظل حالة التخلف المزري التي نعاني منها في العالم العربي على كل المستويات.
لم يكن التفوق وحده، على أهميته، يكفي لتمكين أصحاب الفكر الصهيوني من الوصول إلى مواقع قيادية متنفذة، فكان لا بد من الاعتماد على وسائل أخرى تعينهم على ذلك. من أبرزها تعهد الكوادر الشابة الواعدة الطموحة، من اليهود وغيرهم، بالرعاية والتوجيه والدعم المادي والمعنوي، لكسب ولائهم لقاء مساعدتهم على الوصول إلى مراكز متقدمة في المجالات المختلفة، إضافة إلى توريط تلك الكوادر بجرائم وفضائح مالية أو أخلاقية، تظل سيفا مسلطا على أعناقها وجاهزا للإشهار في وجهها إذا ما خرجت عن الخط المرسوم لها على صعيد دعم الكيان وسياساته، حتى إن كان ذلك على حساب مصالح الدول التي تنتمي إليها! وجدير بالذكر أن سياسات التجنيد والابتزاز قد شملت الكثير من السياسيين العرب، وهذا قد يفسر تهافت الكثير من هؤلاء على التطبيع وتوثيق العلاقات مع الكيان الصهيوني، بعد أن ورطهم الكيان في انحرافات يمكن أن تطيح بمستقبلهم السياسي إن كشفت، وأقنعهم بشكل أو بآخر، بالترهيب والترغيب، أن مكوثهم في مناصبهم وترقيهم مرتهن بالخضوع له!
سادسا- ارتباط المقاومة الفلسطينية بالإسلام:
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي عموما في نهايات الثمانينيات من القرن الماضي، كان الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، بحاجة إلى الانشغال بمقارعة عدو جديد، ولأسباب مختلفة اختير الإسلام ليكون هذا العدو. فتمت شيطنة الإسلام وأهله، وتحويل أتباعه بشكل تلقائي إلى إرهابيين يثيرون الرعب ولا يمكن الثقة بهم. والمؤسف أن بعض الحركات المنحرفة التي رفعت راية الإسلام قد أسهمت في تعزيز الصور النمطية الخاطئة والمجحفة عن الإسلام والمسلمين، ومنحت الغرب الفرصة لتعميم تلك الصور على كل من يرتبط اسمه بالإسلام. وبما أن المقاومة الإسلامية في فلسطين هي التي تتصدر ساحة المقاومة مند سنوات، وبلا منازع، في غياب شبه كلي لحركات المقاومة العلمانية، التي انقلبت على أعقابها أو انزوت أو حتى خضعت للكيان الصهيوني وأصبحت تلعب دور كلب الحراسة له، فقد تم وسم المقاومة الإسلامية بكل التهم الممكنة، ووصفها بالإرهاب، ووضعها في سلة واحدة مع بعض الحركات التي أجمع العالم على وجوب حربها، مثل داعش. ومن هنا يمكن أن نفهم سهولة انجراف العالم لدعم الكيان الصهيوني في مواجهة حركة حماس، التي تمثُل في مخيال الكثيرين من أبناء الغرب حركة إسلامية إرهابية لا بد من إبادتها! تأسيسا على ما تقدم، سيظل الغرب لكل تلك الأسباب المتداخلة يتحيز للكيان الصهيوني بهذه الدرجة، أو تلك.
كاتب فلسطيني