من أكثر من يثير الضحك والسخرية في الخطاب الإعلامي الرسمي في سوريا أن أبواق النظام لم تترك شتيمة على مدى ثلاثة عشر عاماً إلا ووجهتها للعرب، فهم، حسب توصيفها، الذين قادوا «المؤامرة الكونية» على سوريا وهم الذين موّلوها، وبالتالي هم المسؤولون عن تدمير البلاد وتخريبها، لكن المثير للقهقهة في الآن ذاته أن الأبواق السورية نفسها، تقيم الأفراح والليالي الملاح لمجرد حدوث أي تواصل بسيط من نظام عربي مع النظام السوري. ولو عادت الخطوط الجوية السورية للطيران إلى دولة عربية، يصورون لنا الخبر على أنه فتح تاريخي. وحدث ولا حرج عندما تعيد دولة عربية فتح سفارتها في دمشق، هنا تبدأ وسائل إعلام النظام وشبيحته يطبلون ويزمرون للأمر على أنه انتصار عظيم بكل المقاييس، لا بل يعطون الانطباع للمواطن السوري المسحوق في الداخل الذي يعيش أسوأ حياة يعيشها مخلوق على وجه الأرض، بأن كل شيء سيتحسن في سوريا وبأن القادم أفضل، وأن القيادة الحكيمة انتصرت على كل أعدائها العرب، وبأنها كانت دائماً على صواب وبأن خصومها ومعارضيها هم المخطئون بدليل أنهم يعودون الآن إليها. يا له من تفكير صبياني سخيف ومتخلف سياسياً وإعلامياً وذر للرماد في العيون، وضحك على الذقون، ولعب بعقول المسحوقين الذين يحسبون السراب حقيقة.
وقد بدأت عملية تخدير السوريين في الداخل فعلياً والضحك عليهم بعد انتهاء الحرب، فقد اعتقد الكثير من المغفلين مثلاً أنه بمجرد أن يوافق العالم على إجراء انتخابات رئاسية في سوريا يفوز بها بشار، فهذا يعني أن هناك رضا دولياً على إعادة تأهيل النظام وبالتالي ستتحسن الأوضاع في البلاد. كثيرون قرأوا الحدث بتفاؤل كبير، لكن انظروا إلى ما حدث بعد إعادة انتخاب بشار، فقد ساءت الأوضاع عما قبلها بكثير. وبات الكثيرون يترحمون على أيام الحرب.
وقبل أيام بعد انتخاب قيادة قُطرية حزبية جديدة في سوريا وإعادة انتخاب الأسد أميناً عاماً، ظن البعض أيضاً أن في ذلك مؤشراً على بدء مرحلة التعافي وأن المستقبل يبشر بالخير، لكن فجأة وجدنا أن هناك صراعاً خفياً على السلطة في دمشق يجعل السوريين يزدادون رعباً وهلعاً، فقد تم الإعلان بشكل مفاجئ عن مرض زوجة الرئيس، وهي الحاكم الفعلي للبلاد منذ سنوات، وبأنها ستغيب عن الساحة للعلاج. قد تكون مريضة فعلاً، لكن مع ذلك سيكون لغيابها أبعاد سياسية ستتكشف لاحقاً. ولا ننسى كيف أصدرت قيادة «الفرقة الرابعة» أقوى تشكيل عسكري في البلاد بأنها صارت مستقلة عن الجيش وعن القيادة السياسية والأمنية في سوريا، وبأنها غدت حاكمة بأمرها ولا تسمح لأحد بأن يتعرض لأي فرد من أفرادها، مما يذكرنا بأيام الصراع بين حافظ ورفعت. هل هذا تحسن أم ليس تحسناً (يا متعلمين يا بتوع المدارس). نترك لكم التقييم طبعاً، أهل مكة أدرى بشعابها. هذا على صعيد التطورات الداخلية.
لم تعد هناك لا دولة ولا نظام، بل صار لدينا عصابات متناحرة على نهب البلاد وسحق العباد وسط اقتصاد منهار وعملة برخص التراب. هل بعد كل ذلك هناك ما يدعو للتفاؤل؟
تعالوا الآن نعمل جردة حساب للوضع السوري على الصعيد العربي قبل عودة النظام إلى الجامعة العربية وبعده. عندما حضر بشار القمة بعد أن كان منبوذاً لأكثر من عشر سنوات، راح النظام وأبواقه يصورون الأمر على أنه اختراق سياسي كبير، وأن العرب عادوا مطأطئي الرؤوس إلى دمشق راضخين خانعين، وأن الحياة ستعود إلى سوريا الذبيحة في أقرب وقت ممكن. لاحظوا ماذا حصل بعد العودة إلى الجائحة العربية: انهار سعر الليرة السورية بشكل مرعب، وارتفعت الأسعار على نحو خطير، وازدادت الحياة صعوبة، كما ارتفع عدد المتهافتين على دوائر الهجرة والجوازات للهروب من الجحيم. لم يشهد السوريون في الداخل أي أثر إيجابي لعودة النظام إلى الحظيرة العربية، لا بل راحوا يتحسرون على أيام العقوبات.
ماذا بربكم يستفيد السوريون من عودة بعض السفارات العربية؟ ألم يعد منها قبل سنوات؟ ماذا تحقق للسوريين؟ لا شيء. لهذا لماذا كل هذا التطبيل والتزمير لعودة سفارة أخرى؟ ومتى كان وجود السفارات في أي بلد دليلاً على تحسن أوضاعها؟ خذ لبنان مثلاً ليس عليه حصار وكل دول العالم لديها سفارات اليوم في بيروت، فماذا استفاد اللبنانيون الذين يهربون من بلدهم بعشرات الألوف؟
السودان ليس محاصراً ولا ليبيا ولا اليمن ولا العراق ولا تونس ولا مصر، وكل تلك الدول لديها علاقات دبلوماسية ممتازة مع العربي والأجنبي. لكن انظروا إلى أحولها، مع العلم أن ليس لديها واحد بالمائة من الخراب والدمار والانهيار الذي يحيق بالسوريين. فلماذا يرى بعض المغفلين أن هناك نوراً في آخر النفق؟ لماذا يضحكون على الشعب المنتوف؟
وقبل أن تطبلوا وتزمروا لعودة بعض السفارات، أو لزيارة رئيسكم لهذه الدولة العربية أو تلك، اسألوا أنفسكم: هل يسيطر النظام على سوريا أصلاً. ولو تركنا النفوذ الروسي والإيراني في سوريا وتلاعبه بالقرار السوري جانباً، ماذا عن المناطق المحررة أو المحتلة الخارجة عن سيطرة النظام وحلفائه؟ كيف تتحدثون عن تعاف، بينما البلد ممزق أصلاً ويحتاج إلى حل دولي يرضي كل السوريين. ولا ننسى موضوع اللاجئين الذين يرهقون كاهل الدول المجاورة، ولا بد من حل لقضيتهم.
وحدث ولا حرج عن الأزمة المالية والاقتصادية وعملية إعادة الإعمار التي تحتاج إلى سبعمائة مليار دولار حسب الإحصائيات الدولية. من سيقدم ربع هذا المبلغ لسوريا؟ من سيقدم ملياراً واحداً للنظام في وقت تغيرت فيه سياسات دول الخليج كلياً في مسألة التبرعات؟ لم تعد تقدم تلك الدول الهبات على بياض. وقد قال أحد وزراء المالية الخليجيين قبل فترة إن حكومته بدأت تفرض ضرائب على شعبها، وهي ليست مستعدة أن تأخذ أموال شعبها وتقدمه هدية للآخرين. ثم انظروا إلى الوضع في مصر التي لم تعد تحصل على عطايا، بل أصبحت مضطرة أن تبيع أصولها من أجل الحصول على عملة صعبة من الدول العربية الغنية. باختصار لم يعد هناك وجبات عربية مجانية لأي بلد عربي منكوب، فعلى ماذا يراهن المتفائلون في سوريا؟
ولا تنسوا أن بلداً مثل العراق لديه ميزانية سنوية تفوق المائة وخمسين مليار دولار كبلد نفطي غني، لكن سوء الوضع السياسي في البلاد حرم العراقيين من أبسط أساسيات الحياة كالكهرباء والماء، فما بالك بسوريا التي لا تزيد ميزانيتها السنوية على بضعة مليارات لا تكفي لتمويل مدينة صغيرة، ناهيك عن أنه لم تعد هناك لا دولة ولا نظام، بل صار لدينا عصابات متناحرة على نهب البلاد وسحق العباد وسط اقتصاد منهار وعملة برخص التراب. هل بعد كل ذلك هناك ما يدعو للتفاؤل؟
كاتب واعلامي سوري
[email protected]