رام الله -«القدس العربي»: بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي أصبح الاحتلال الإسرائيلي يعتقل الفلسطينيين في كل مكان، خلال حملات الاقتحام الليلية، وعلى الحواجز العسكرية التي تفصل مدن الضفة الغربية، وهو ما عزز من حالة المطاردة الساخنة التي أصبحت تستهدف بشراسة الفلسطينيين من أصحاب تجارب الاعتقال السابقة الذين ينظر إليهم على أنهم مطلوبون ومستهدفون للاحتلال.
وخلال نحو شهرين اعتقلت قوات الاحتلال ما يربو على 4 آلاف أسير ضمن حملة هي الأعنف والأكثر شراسة سواء في طبيعة المعتقلين أو في ممارسات الجنود خلال لحظة الاعتقال أو في إجراءات السجون وممارسات السجان الإسرائيلي، وهو ما جعل من تجربة الاعتقال حالة فريدة من القمع والتوحش والجنون الإسرائيلي في استهداف الفلسطينيين والمس بكرامتهم وتحطيم معنوياتهم.
أما في قطاع غزة فلم يكتف الاحتلال بمشاهد القتل والتدمير ليلا نهارا، بل لجأ إلى حيلة قديمة جديدة في استهداف الفلسطينيين عبر نشره مجموعة من الصور الصادمة، التي يظهر فيها المئات من الأسرى من مختلف الفئات عراة إلا من ملابسهم الداخلية، ممددين بطريقة مهينة.
ويثير مشهد الرجال الذين أجبروا على خلع ملابسهم، والركوع في الشارع، ووضع عصابات الأعين عليهم، الكثير من الأسئلة ولا سيما وأنها تهدف إلى قصف الفلسطينيين وتعزيز مخاوفهم عبر استهداف أجسادهم وجعلها مشاعا بعد أن مل من مشاهد قتلهم على الطرقات وفي المنازل.
مخاوف الاعتقال المضاعفة
تحدثت “القدس العربي” مع أسير سابق من محافظة نابلس، قضى في سجون الاحتلال نحو 20 عاما متواصلة بتهمة طعن جندي إسرائيلي، وخرج من السجن قبل نحو ثماني سنوات، لكنه يشعر بقلق بالغ لاحتمال اعتقاله في أي لحظة ليس لكونه مطلوبا بل لكونه مسجل “أسير سابق” في وثائق أجهزة الاحتلال الأمنية.
ويرى الأسير (ف. ج) أن الظرف الحالي يجعل من تجربة الاعتقال مليئة بالمخاوف والقلق، فقبل أحداث عملية “طوفان الأقصى” كان الاحتلال يستهدف الأسير المحرر خلال تواجده على الحواجز، حيث كان يتم التعامل معه على أنه صاحب تجربة نضالية وبالتالي كان ينظر إليه على أنه شخص مهدد بالاستهداف، وهو أمر كان يترجم من خلال الاعتداء عليه أو تأخير مروره بإعاقة حركته، أما “بعد 7 أكتوبر فعملية رصد سلوك وممارسات الجنود أظهرت أن الأسرى السابقين مهددين بالاعتقال، وكأن هناك تعليمات جديدة تستهدفهم، كما يظهر أن سلوك الجنود بالاعتداء عليهم بدون أي أسباب صارت أمرا مقبولا من القيادة العليا للجيش الإسرائيلي وهو أمر لا يحاسب عليه، وبالتالي كانت النتيجة أن يد الجنود حرة في الاعتداء على الأسرى السابقين، والحالات من اعتقال واعتداء أصبحت بالمئات”.
وأضاف: “واضح أن فعل الجنود إزاء هؤلاء الأسرى باعتقالهم لم يكن نابعا من وجود قرار باعتقالهم، ولو كان كذلك لذهبوا لمنزل الأسير، إنما يمكن قراءة الفعل على أن المعتقل أصبح في أيدي الجنود وبالتالي لا يجب تركه”.
يعود الأسير السابق (ف. ج) إلى الماضي حيث يقول: “في النهاية وكأننا رجعنا بالذاكرة لفكرة الهوية الخضراء التي كانت تمنح للأسير بعد الإفراج عنه قبل قدوم السلطة الفلسطينية، حيث كانت الهوية الرسمية للفلسطيني بلون برتقالي أما الأسير فكان يحصل على هوية خضراء، وكانت في تلك الفترة مصدرا لتميز الأسير أو المناضل وكانت تعني تصريحا للجنود بالضرب والاعتداء”.
يتابع ساخرا: “حاليا ليس هناك من داع لتغيير لون الهوية في ظل أن الفحص الرقمي عبر الأجهزة والتطور التكنولوجي يمنح الجندي كل المعلومات التاريخية عن الشخص وبالتالي تحدث نفس النتيجة مع الأسرى السابقين”.
ويشير (ف. ج): “ترتب على تلك السياسة وفي ظل واقع السجون أن نجد الأسير المحرر أصبح يتجنب الوصول إلى الحاجز ويتجنب أن يكون في أي موقف يضطر فيه إلى تسليم هويته إلى جندي احتلالي من أجل فحصها، فهذا يعني عملية اعتقال أو اعتداء مؤكد. هذا غير في سلوك التنقل والحركة عند الأسير حيث أصبح يفاضل بين ألا يتحرك بين المدن الفلسطينية مخافة أن يتعرض للاعتقال أو الاعتداء الجسدي”.
ويرى الأسير أن “هذا ينعكس على قسم كبير من الشعب الفلسطيني، فمئات الآلاف من الفلسطينيين خاضوا تجربة الاعتقال، لقد تبين لي أن مئات الأشخاص من الذين اعتقلوا على الحواجز معظمهم من الأسرى المحررين، من دون أن يكونوا في تنظيم أو حزب معين، وهذا يعني أن الجنود يستهدفون التاريخ النضالي للأسير السابق”.
الاعتقال أو إنزال العقوبة بحقك كأسير سابق مرتبط بإنك في لحظة ما من تاريخك قررت الوقوف في وجه الاحتلال” بحسب (ف. ج).
ويتحدث عن نفسه قائلا: “قررت عدم الخروج من مكان سكني، لست مستعدا للمرور من خلال حاجز إسرائيلي، فهذا يعرضني للخطر الشديد، خاصة إذا ما تم فحص الهوية، وبعد أن طال الأمر، نقلت مسكني الخاص إلى مدينة رام حيث أعمل كي لا أمر على الحواجز العسكرية”.
ويؤكد أن السجن في كل حالاته هو شيء غاية في الصعوبة، كما أن “السجون مرت بمراحل وتحولات كبيرة، فحالة السجون وظروفها كانت سيئة ولم تكن في أحسن حالاتها، لكنها قبل أحداث 7 أكتوبر كانت تدار تحت نطاق قانوني، صحيح أنه لم يكن في صالح الأسير، لكن في النهاية كان إطارا قانونيا ضابطا ويحكم العلاقة بين السجان والأسير، إنه حد أدنى من الحقوق، أما بعد عملية طوفان الأقصى فالظروف صعبة ومزرية، وبالتالي مسألة الاعتقال تعتبر تجربة وخيارا يجب تجنبه، في ظل غياب كل أشكال القانون والممارسة الإدارية التي تحكم علاقة السجان بالأسير، فلم تعد هناك أي حقوق تتعلق بكرامتك وبإنسانيتك وبأي من حقوقك سواء ما تعلق منها بالطعام أو الشراب أو النوم أو العلاج”.
ويتابع: “الشهادات التي خرجت من السجون لا يمكن أن يتخيلها ولا يفهم معناها إلا شخص عاش في السجون، فهو الأقدر على عملية المقارنة، وبالتالي يمكن لهذا الشخص أن يدرك حجم التحول والكارثة والمأساة وحجم الجريمة التي ترتكب بحق الأسرى، في ظل سياسة الاذلال والحط من الكرامة التي تمارس على الأسرى”.
ويرى أن ذلك يبرر ما نسمعه عن عدم رغبة مجموعة كبيرة من الأشخاص بتسليم أنفسهم للاحتلال، وهو أمر كان يرد عليه الاحتلال باعتقال عائلة الأسير.
ويضيف: “هناك أشخاص قرروا أن يعيشوا حالة مطاردة والهرب من الاعتقال وهو ما يعرض حياتهم للتصفية على فكرة دخول السجن، فالسجن أصبح موازيا للقتل النفسي والجسدي والإنساني وسالبا للكرامة الإنسانية والوطنية”.
إجراءات لضرب الكرامة الإنسانية والوطنية
ويعرض (ف. ج) بعض شهادات إحدى الأسرى المفرج عنهم قبل أيام مؤكدا أن ما يقوم به السجان من إجراءات تعمل على ضرب كل ما يتعلق بالكرامة الإنسانية والوطنية، يحاول أن يمس في الهوية الوطنية وهو من أكثر الأشياء المؤلمة والمؤذية، تخيل أن يطلب منك الجندي ويضعك أمام خيارين، أما أن تبدأ مشوارك داخل السجن بتقبيل العلم الإسرائيلي، أو أن يقوم بالدوس على رأسك بقدمه ويقوم بتصوير ذلك”.
ويضيف: “نحن كأسرى علاقتنا مع السجان وحوارنا معه يقوم على أساس أننا فلسطينيون، أنا بالسجن أسير من أجل الحرية، أما ما يجري فهو أن يطلب مني تقبيل العلم الإسرائيلي والحط من كرامتي الوطنية، هذا فعل أساسه انتزاع اعتراف مني بالتنازل عن كرامتي الوطنية وحلمي بالحرية، وهذا اعتراف بانتصاره علي وهزيمتي، وهي هنا، في هذا الحالة، هزيمة مذلة، فحتى الإسرائيلي لا يطلب منه تقبيل علم إسرائيل”.
ويتحدث عن ممارسة أخرى وهي تصوير فيديوهات تتضمن مشاهد تعرية، أو الإجبار على التفتيش العاري، الذي لم يكن ممارسة عادية، كان يتم سابقا في نطاق ضيق وبغرف مغلقة وتحت مبرر منع تهريب أشياء ممنوعة، ومن دون نزع ملابسك الداخلية وكان يتم بطريقة سريعة، ومن دون أن يرافق ذلك النظر لجسد الأسير، أما اليوم التفتيش العاري يكون جماعيا وأحيانا مصورا وبشكل مهين، إلى جانب كل ما يترتب على ذلك من تعليقات مهينة وتنكيت وتعليقات جنسية وفي ظل وجود مجندات أيضا، وأحيانا يستهدف كبار السن وقادة وشخصيات اعتبارية وأمام الجميع.
ويضيف: “كيف أفهم هذا السلوك فيما يتعلق بالأسرى، أو مسألة تقبيل العلم أو انتهاك حرمة الجسد، إنهم يحاولون كسرنا عبر استهداف أمور (تابو) وضرب في القيم الثقافية والدينية في المجتمع. أنهم يريدون أن يكسروا فيك كل ما هو غالي، إنها محاولة للتحطيم، يحاول أن يزرع فيك فهما أنه ليس لك أي شيء، ويجب أن تكون خاضعا وتعلن استسلامك وأن يتم تجريدك من معانيك الوطنية، وينتهك جسدك ويقول انه لا قيمة لك، ولا يتم التعامل مع وفق أي حرمة، أنت شخص لا تستحق أن يكون له حرمات”.
ويرى أن خطورة ما يجري في السجون هو انها تمارس بشكل جماعي، من خلال تحطيم الرموز الوطنية، حسب تصريحات يوئاف غالانت نحن “حيوانات بشرية” فالفلسطيني بلا قدر ولا قيمة، شخص لا يستحق أن يتم التعامل معه بأي صفة إنسانية.
ويشدد الأسير السابق: “أن الأسير وجد نفسه ضعيفا ومجردا ومهملا وبعيدا عن الأنظار، فلا خيار إلا الصبر إلا أن تمر هذه المواجهة الوحشية”.
ويرى (ف. ج) أن هناك أهمية مضاعفة في نشر ما يتعرض له الأسرى اليوم، فهذا مفيد من أجل التهيئة النفسية، حيث يزود الأسرى يما يمكن أن يقابلوه داخل السجن، وبالتالي هناك احتمالية لتوطين النفس، والعمل على ابتكار وسائل مقاومة وممانعة، فالصدمة قد تخلق حالة من الكسر النفسي، كم أن النشر يعمل على فضح سياسات، كما أنها تعمل على إجراء مقارنة بين ما يتعرض له أسرى اليهود لدى المقاومة وما يفعله الاحتلال بحق الأسرى الفلسطينيين.
ويختم: “الموضوع الجسدي صعب، والأصعب هو استهداف الكرامة الشخصية والوطنية. إلى جانب شتم النبي محمد صلي الله عليه وسلم، وشتم الذات الإلهية بشكل منهجي. وشتم العرض سواء الأم أو الأخت، كلها أمور تستهدف قضايا تتعلق بمنظومة القيم والثقافة الخاصة بنا كشعب فلسطيني، يحدث ذلك في لحظة صعبة جدا حيث المقاومة مكلفة لهم داخل السجون في ظل الهجوم المتوحش على قطاع غزة”.
اقتباس: تصوير الأسرى الفلسطينيين عراة مرحلة جديدة لانتهاك الجسد الفلسطيني