تصفح بسيط لموقع وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية هذا الأسبوع، يمنحك هذه الصورة المخيفة. 34 قتيلا و12 مصابا بعد حادث السير الذي حصل في مدينة تمنراست في أقصى الجنوب الجزائري في يوليو/تموز من هذه السنة. مدينة صغيرة وغير مكتظة من الناحية الديموغرافية. في الفترة نفسها التي تذكر فيه الوكالة أن حادث تيكجدة في ولاية البويرة، الذي حصل يوم الجمعة من الفترة نفسها قد ارتفع إلى 10 قتلى و25 مصابا. من جهتها يومية «الوطن» تذكر أن 37 قتيلا و1696 جريحا تم إحصاؤهم خلال الفترة المتراوحة بين 30 مايو/أيار و6 أبريل/نيسان هذه السنة على المستوى الوطني، لتبقى قائمة القتلى على الطرقات مفتوحة.
الصورة تصبح أكثر قتامة، إذا اضفنا إلى حوادث الطرقات، عدد القتلى في الشواطئ والبرك المائية التي ما زال يلجأ اليها أبناء المناطق الداخلية الفقيرة كنوع من السياحة الشعبية، في هذا الصيف الحار الذي عرف ارتفاعا رهيبا في درجة الحرارة في كل مناطق البلاد، بما فيها المنطقة الشمالية، يكفي أن نشير في هذا الصدد إلى أن الصحافة الوطنية سجلت 172 قتيلا منذ بداية يونيو/حزيران الماضي. مقابل 150 غريقا في الشواطئ غير المحروسة، التي ما زال يتجه إليها الشباب، على الرغم من التحذيرات والمنع. صورة تزداد قتامة إذا أضفنا لها ما أصبح طقسا سنويا، يلتقي فيه الجزائري مع الموت بمناسبة حرائق الغابات وهي تعود كل سنة.
استهانة كبيرة بالحياة يعبر عنها الجزائري بأشكال متعددة وهو يموت في الطريق والبحر والسد المائي ومناسبات الزواج والفرح الأخرى، التي يمكن أن تتحول إلى مآتم في أقل من دقيقة، نتيجة طلقة بارود طائشة، أو حادث مرور بسبب سائق متهور، حوادث لا بد لها من تفسير وشرح، في مجتمع شاب عاش الكثير من الحزن في تاريخه القريب، المفروض أن يكون إقباله على الحياة أكبر، فماذا يحصل بالضبط للجزائري مع الموت؟ مدارس عدة في ميدان السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا تمنح قيمة تفسيرية للمتغيرات الديموغرافية الهادئة منها والعنيفة كالموت، مهما كان مدى هذه الاتجاهات الديموغرافية قصيرا أم طويلا. مثل الانتحار للقول إن المجتمع هو الذي يموت وليس الفرد فقط. معطيات لن نعود إليها بالتفصيل للاكتفاء بالتذكير ببعضها، كما هو الأمر في قلة الإنجاب المبالغ فيه، كما أكدت ذلك الدراسات الجيو-استراتيجية، التي تنبأت بسقوط الاتحاد السوفييتي عقودا قبل سقوطه الفعلي، في بداية التسعينيات. حالة ديموغرافية استمرت مع روسيا وقد تتحول إلى سبب عميق لنكستها العسكرية في حربها مع أوكرانيا، كما تؤكد ذلك الكثير من المؤشرات البادية منذ انطلاق المعارك العسكرية، على غرار الطلب الكبير على المرتزقة، التي تؤكدها ظاهرة مجموعة فاغنر.
استهانة كبيرة بالحياة يعبر عنها الجزائري بأشكال متعددة وهو يموت في الطريق والبحر والسد المائي ومناسبات الفرح، التي يمكن أن تتحول إلى مآتم في دقائق
وبالعودة إلى الجزائر يمكن أن نتكلم عن هذه «العلاقة الحميمية» التي يملكها الجزائري مع الموت في مختلف أشكاله.. الحضور الكبير للشباب داخل التركيبة الديموغرافية للمجتمع الجزائري، قد يكون أحد مفاتيح التفسير المهمة، عكس ما يعتقد الكثير، من زاوية أن الشباب هو تهور كذلك وحركة كبيرة – خاصة في فصل الصيف – وضعف التمييز أمام الخطر، كما تؤكد نسبة حضورهم الكبير كضحايا ومتسببين في عدد حوادث الطريق، لا نشك في علاقاتها بظاهرة استهلاك المخدرات الطاغية في المجتمع الجزائري، لدى مختلف الفئات العمرية – بمن فيهم البنات، التي تقول الإحصائيات الرسمية أن انتشارا كبيرا يسود بين صفوفهن، من دون إهمال للحالة النفسية السيئة التي تميز الشباب في الجزائر، يمكن أن نأخذ فكرة عنها ونحن نشاهد ألوان ملابسهم، التي يغلب عليها الأسود والألوان الداكنة – وكأنهم موظفون في مؤسسة سيادية – في بلد متوسطي كان يفترض أن الألوان الزاهية هي التي تكون السائدة في لباس سكانه من الجنسين. في حين نجد أن العكس هو السائد. تحول كل شاب لا يلبس الأسود القاتم إلى محل شكوك في أخلاقه، حتى إن تعلق الأمر بقميص شرعي، كما هو حاصل هذه الأيام بين الشباب الذين نوعوا في ألوان لباسهم التقليدي.
نوعية الحياة التي يقترحها نظام التسيير الرسمي للمواطنين على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يمكن أن تكون مدخلا مهما آخر لتفسير هذه الحالة النفسية السيئة للجزائريين، التي ننطلق منها لتفسير موقفهم من الموت والحياة، خاصة ونحن نربطها بجودة الحياة في مدننا التي تصنفها تقارير دولية منذ سنوات مع أتعس المدن في العالم، في مرتبة عواصم بلدان تعرف حروبا أهلية منذ سنوات طويلة، كما هو حال طرابلس الليبية ودمشق السورية. في بلد ما زال النفاق هو سيد الموقف فيه، عندما يتعلق الأمر بالسلوكات العامة والخاصة، سواء تعلق الأمر بالمأكل أو المشرب أو اللباس وغيره من الحميميات المرتبطة بالفرد. كما عبر عنه وزير التجارة الأسبق، الذي طالب بمنع كل المنتوجات التي تشير من بعيد أو قريب إلى ألوان قوس قزح، التي ربطها بشكل آلي بالمثلية الجنسية التي «تمس بالعقيدة الدينية والقيم الأخلاقية للمجتمع الجزائري»! الموقف نفسه الذي نجده حاضرا في طرقاتنا، ونحن نعاين كيف تتسابق دوريات الشرطة والدرك لتوقيف السيارات التي يكون سائقها من الشباب، المشكوك في أمرهم حتى يثبت العكس. ممارسات جعلت عصابات ترويج المخدرات في البلد تلجأ إلى خدمات الكبار في السن لقلة شكوك قوات الأمن فيهم. متهمون لأنهم شباب! تحولت الحرقة عندهم إلى حل لكل مشاكلهم في هذا المجتمع الذي ينبذهم ويحاصرهم في أدق تفاصيل حياتهم اليومية، لا يمنحهم فرصة عيش محترمة لأنهم شباب في مجتمع يحكمه الكهول المنافقون، الذين يقولون ما لا يفعلون. في مجتمع أصبح فيه من الضروري أن تكون غنيا جدا ـ ليس متوسط الحال أو غنيا بشكل معقول – حتى تطمح بنوعية حياة مقبولة تسمح لك بالتوجه كل أسبوع إلى باريس، حتى لا تنهار نفسيا من بقائك في البلد أو تدخل في حالة سلفية أو صوفية، تتقوقع فيها على ذاتك وماضيك المتخيل، كما يفعل الكثير من الشباب، بعد المنع والقمع الذي طال كل أشكال التجنيد التي خلقها شباب الحراك في الجزائر التي حلموا بها في 2019.
كاتب جزائري