(تحية للشاعر عماد أبوصالح
لمناسبة سركون بولص)
1
هذا اختصار جارح لفرط واقعيته، يطلقه الباحث الفرنسي جاك روبو ويوصل «وبالتالي غير قابل للبيع».
ربما يجد كتّاب كثيرون أن هذه المعضلة سببا موجبا ليهجموا على شبكة الإنترنت لإشاعة أكبر كمية من الكتابات التافهة تحت يافطة الشعر، بزعم مجانيتها المادية. من جهة الحقيقة، ورغم (شعريتها) بحجة المواقع، بالطبع ثمة الفرق، الذي نراه بين ألا تكون للشعر أهميته في قانون السوق، وأن يكون الشعر لا يزال ضروريا بصفته الإنسانية. الإنترنت سيؤكد هذا، لكن بعد أن يأخذ سياقه الرصين.
2
حريات (الأصح مجانية) النشر في شبكة الإنترنت (حاليا) ستتيح لمتحذلقي الكتابة تعميم المزاعم المتصلة بكسر طوق القمع والكبح والمصادرات لممارسة الحق الإنساني في التعبير، لكن خلال ذلك سيجري التضحية والتفريط (هل أقول التجاهل سبب فقد) الموهبة الشعرية أساسا.
3
إذا تأخر بعضهم في الإطلاق الشخصي لصفحته الخاصة، سوف يجد الفضاء مفتوحا في ما لا يحصى من المواقع الفضفاضة القيمة والحدود الفنية، لينشر كل يوم نصا، بدون مجرد مراجعته بعد كتابته الأولى. هلهلة المقاييس الأدبية، وضعف المعنى الفني، يجعل هذا الموقع سلة مهملات هائلة، تنشر كل شيء، تحت يافطة «الشعر» لكن بدون أن يتمكن أحد من مراجعة الناشر، ناهيك عن مساءلته، الذي سيردعك بشعار «حريات النشر» وحذار أن تكون إعادة لسلطة الرقابات الرسمية وغيرها في النشر التقليدي.
4
قلة كلفة النشر الالكتروني في الإنترنت، وانعدامها، ساعدت على انتشار قلة الشعور بالمسؤولية الأدبية، وتعميم ضئيلي الموهبة وانعدامها في شبكة الإنترنت.
5
غياب وانحسار النقد الأدبي، الشعري خصوصا، أدى إلى ضعف حضور القيمة الأدبية، التي تنشر في حقل النشر التقليدي في السنوات الأخيرة، لكن هذا السبب هو أيضا أتاح لانفلات نشر الشعر في حقل النشر الإلكتروني في شبكة الإنترنت خصوصا.
6
ولئلا نقع في شراك الأساليب الرقابية والمصادرات التقليدية، ونحن نتكلم عن تراكم المواد الأدبية التافهة، سنشير إلى ضرورة العامل الشخصي لدى الناشر في شبكة الإنترنت، خصوصا الحاجة الملحة لتشجيع المتابعات والعمل النقدي الجديد لكل ما ينشر في الإنترنت. وخلال ذلك سنكون، يوما بعد يوم، أحوج إلى منظورات وقيم نقدية تستقيم وتناسب وسائط النشر غير التقليدية، وأقترح حدودا وشروطا ومفاهيم ومصطلحات أدبية نقدية تسهم في ترصين كل ما ينشر من نصوص ومواد أدبية وشعرية في شبكة الإنترنت.
7
عربيا، سيشكل النشر في الإنترنت أحد أضخم وسائل التنفيس، بشتى أشكاله، عن الاحتقانات الكثيرة في الحياة العربية، وعند العرب يبقى الأدب (الكتابة) الوسيلة الأولى للتعبير، بل إن الشعر خصوصا هو في مقدمة ما يشعر العربي أنه قادر على كتابته. وبما أن النشر في الإنترنت يبدو أقل كلفة ماديا وأسرع انتشارا، والأهم هو بلا رقابة، سوف يجد فيه العربي الوسيلة الوحيدة التي لا يمكن التفريط في استقلاليتها.
الفوضى هنا ستصدر، ليس فقط من الأشخاص الذين يكتبون ما يزعمون أنه الشعر، لكن المسؤولية ستقع خصوصا على المواقع الثقافية، التي سيلجأ إليها كثيرون للنشر في منصاتها. وكلما كان محررو ومشرفو هذه المواقع متساهلي الشعور بالمسؤولية، سنصادف السيل الجارف من الكتابات، التي ستنشر تحت طائلة الشعر. وفي ظل غياب النقد الأدبي الصارم في حقل النشر التقليدي، سنشاهد مقدار الفداحة، حين ينتقل كل ذلك إلى حقل النشر الإلكتروني في شبكة الإنترنت، حيث لا حدود ولا قيمة نقدية ترصد وتقيد المواد التي تنشر في هذه المواقع. أكثر من هذا، سوف ينشئ ويربي أوهاما نقدية لدى الكثيرين الذين سوف يتبادلون أدوار الشاعر والناقد، لترويج وتكريس الأسماء التي ستواصل نشر كتاباتها بوصفها عماد المشهد الآن.
8
لكن رغم كل هذا السيل الجارف مما صار يطلق عليه البعض أدب الإنترنت، سيقصر عن بلورة تجربة شعرية حقيقية واضحة الملامح، بالمعنى الفني للشعر. وسوف يتحتم عليك الحذر الكبير لكي تكتشف الصوت الشعري الرصين الموهوب. وهو عادة سيكن يمارس كتابته بعيدا عن هذه الفوضى، وإذا صادق ونشر نصه في مكان، فسوف يكون بمعزل عن شروط هذه الفوضى، وربما كانت بعض الأصوات الشعرية الجديدة النادرة، قد تفتحت في هامش هذه الفوضى، وساعدها حذرها وقدرتها على عدم الخضوع، أو الانجراف لشروط النشر الإعلامي المرتجل، الذي أصبحت مئات المواقع تتيحه أمام كل من يسعى إلى سهولة الانتشار وسطحيته.
9
كل ذلك، لا يدفعنا إلى القلق السلبي الذي يؤدي إلى ردود الفعل التقليدية، المتصلة بأوهام الحجب والمنع والمصادرة، لأن هذا سيضعنا مجددا في السلوك التقليدي النقيض، في جوهره وشكله، لأكثر وسائط النشر والاتصال الحضارية حداثة، حيث الأفق الرحب من حريات التعبير الشخصي والجماعي.
فعلى الرغم من كل هذه الفوضى العارمة التي تضرب مشهد النشر الجديد في الإنترنت، يظل الأفق الحر هو خيارنا الوحيد الجديد الذي يتطلب المزيد من مراجعة وتأمل التجربة، لكي نعيد ابتكار لياقتنا الثقافية لتحسين التعامل مع شكل غير مألوف من النشر الأدبي. لأن أخطاء استخدام الوسائط ليس دليلا على سلبية هذه الوسائط ذاتها، ولا يشير إلى خلل في شبكة الإنترنت ذاتها تقنيا. لكنه سوء استخدام يتمثل في طبيعتنا المعرفية والحضارية. وفي حالة الأدب والشعر، سيكمن الخلل في مفاهيمنا ورؤانا في حقل المعرفة الأدبية. وبالتالي، في قدرتنا على إدراك الفرق الجوهري الشاسع بين الذهاب إلى الانترنت بوصفه وسيلة للانتشار الإعلامي السطحي، أو الذهاب إليه باعتباره أحدث الأساليب للاتصال الإنساني والحوار الثقافي الحضاري الحر الجميل والمسؤول. لذلك علينا أن نصرف النظر عن أي بادرة ردة فعل تتصل بفرض وسائل الرقيب على النشر الثقافي في الإنترنت. فهذا شأن، إذا كان يناسب المؤسسات الرسمية التقليدية، فهو لا يناسب ولا يليق بنا ونحن بصدد الزعم بحياتنا في القرن الواحد والعشرين.
10
يبقى الكلام الممكن عن الدور الذي يقع على كاهل ومسؤولية أصحاب المواقع الثقافية والأدبية والشعرية، وعلى المشرفين عليها والمحررين فيها. لأن الأمر يتصل دائما بالوعي النقدي، وبارتقاء الذائقة الأدبية والفنية لدى القائمين على هذه المواقع. ففي هذا الأمر لابد أن يكون الرأي الحاسم والقيمة الفنية من جنس العمل، حيث الدوافع والروادع تصدر من داخل الفعل الثقافي ومنتجيه، نصا ونقدا. وهذا ما نقول به دائما من أجل أن تستطيع تجربتنا الثقافية الأدبية العربية مع النشر الإلكتروني قادرة على فرز وبلورة رؤية نقدية تستوعب طبيعة هذا النشر بحريته وجماله. وتصغي لاقتراحات الإبداع الجديد الذي يتخذ من شبكة الإنترنت وسيلته الجديد ة للاتصال بالعالم.
11
أقول إنه لا تجوز المبالغة في القلق والخوف من هذه الفوضى المرافقة لتجربتنا مع النشر الأدبي في شبكة الإنترنت. فربما كانت هذه الفوضى طبيعية في لحظات التحولات الكونية الذاهبة إلى مخاض الخلق، حيث يحدث الانتقال النوعي، وتبرز لنا معطيات التجربة، بعد أن يذهب الكم الهائل من المادة المنشورة إلى جفاء، ويبقى الابداع الإنساني.
٭ كاتب بحريني
بالمناسبة، أخي قاسم، انتظر بضعةً من السنوات وسوف ترى النشر الرقمي يحل محل النشر الورقي في كل شيء! ورغم أن لكل منهما محاسنه ومساوئه، إلا أن حرية الكلمة المكتوبة في النشر الرقمي تفوق نظيرتها في النشر الورقي بأضعاف مضاعفة
قبل أكثر من عشرين عاما (حينما كان هناك شيء من حرية الكلمة المكتوبة، أيامَ من كانوا يتشدقون بقول السفّاح «لا رقابة على الفكر سوى رقابة الضمير»)، كتب صديق حميم مقالا نقديا أدبيا معمَّقا عن رائعة جيمس جويس «يوليس» (أو «عوليس»، كما يعرِّبها البعض)، ثم أرسله للنشر في إحدى دوريات «الاتحاد» الغني عن التعريف بفساده وعهره، أذكر يومها مجلة «الآداب الأجنبية» الصادرة عن «اتحاد الكتاب العرب» في دمشق. وبدون أي تردد أو تلكؤ، في دولة نظام «الممانعة والمقاومة» وجبهة «الصمود والتصدي»، رُفض نشر هذا المقال في هذه المجلة رفضا قاطعا لمجرد كون الشخصية الرئيسية في كتاب «يوليس»، ليوبولد بلوم، شخصيةً يهودية!
[يتبع]
[تتمة]
والآن، في هذا العصر المعلوماتي السريع بسرعة البرق، وبعد مضي أكثر من عشرين عاما على ذلك الرفض القاطع لنشر ذلك المقال الأدبي النقدي (في دولة نظام «الممانعة والمقاومة» وجبهة «الصمود والتصدي»)، فما إن نشر الصديق الحميم ذات المقال النقدي الأدبي المعني في موقع الفكر الحر الشهير بالاسم «الحوار المتمدن»، حتى تهافتت العديد من الدوريات والمجلات والصحائف (الورقية والرقمية) إلى إعادة نشره مرارا وتكرارا في مواقعها الخاصة!
تحية للجميع وتأكيدا على قول الأخ ثائر المقدسي، بمناسبة إشارته إلى الفساد في اتحاد الكتاب العرب، هذا الاتحاد هو في الحقيقة اتحاد رقباء وليس اتحاد “أدباء”، كما جاء في مقال صبحي حديدي “خمسون اتحاد الرقباء” في 24 نوفمبر 2019:
(«اتحاد الكتّاب العرب»، وليد حزب البعث في سوريا وليس «الاتحاد العامّ للأدباء والكتّاب العرب»، … بموجب المرسوم التشريعي 72، القاضي بإحداث منظمة أنيطت بها مهامّ «التأليف والترجمة في مجالات الشعر والقصة والمسرح والنقد والدراسة والبحث، وما يتصل بها من نشاطات فكرية في الحقل الثقافي والأدبي». يومذاك كانت لائحة المؤسسين قد ضمّت أمثال زكريا تامر، أحمد حيدر، سليمان العيسى، حنا مينه، علي الجندي، أنطون مقدسي، عمر الدقاق، أديب اللجمي، علي كنعان، فؤاد نعيسة، فاضل السباعي، سعيد حورانية، يوسف الخطيب، عبد الله عبد، ممدوح عدوان، محمد عمران، فارس زرزور، جورج سالم، عزيزة هارون، سليمان الخش (الرئيس الأوّل للمنظمة)، وصدقي إسماعيل (الرئيس التالي، حتى عام 1971).
خمسينية هذا العام هي احتفاء باتحاد الكتّاب الرقباء، وحدهم، لأنّ للكتّاب السوريين تواريخ احتفاء أخرى باتحادات وروابط عديدة، بدأت منذ مطالع القرن الماضي خلال حكم العثمانيين ثم بعد الاستقلال)!!؟
غير صحيح ان النشر الرقمي سيحل محل النشر الورقي.النشر الرقمي له عالمه ومذاقه وضرورته المرتبطة بخوارزمية التقنية.اما النشر الورقي فهو الأساس الحضاري للبشرية.فهل حل المصباح بدل الشمس؟
غير صحيح القول بأن النشر الورقي هوالأساس الحضاري للبشرية إذا كان في أغلبيته الساحقة تحت رقابة السلطة على مر التاريخ ،، وبعدين كل منشور رقمي يمكن تحويله إلى ورقي ، ولكن العكس غير صحيح