حافته بيضاء، ترتفع عالية كشاهدة قبر. يمتد أمامك على كامل مساحة الغرفة، وكأنه مقبرة مفتوحة لمئات النساء. صنعه من طين، وحجارة. لعلك ستعثر تحت كل حجر على حشرجةٍ مخنوقةٍ لفتاة قاصر. وفي تربتِه الرطبة، آهاتٌ طُمِرَت من قبل أن تولد. ترتقي إليه بدرجٍ رخامي صغير. لم يكن سريرا، بل مذبحا ينحر عليه ضحاياه. يخنق أفواههن بأصابعه، فتتمزق الجدائل، وتتفكك، وتتطاير على الجدران، ويتدفق سيل الدمع ليطهر الساحة. صراعٌ لا يني يتكرر، في غمرة ارتفاع منسوب الخيبة.
كيف يُبنى الجحيمُ بين طرَفَي حديقة وزقاق، والسدنة شهود زور؟ تتكثف الزوايا أمامك، وتتكرر المرايا في كل مكان. أنى حاولت الفرار، تجد القوس يردك نحو جدار آخر بمحاذاة المذبح، يحاصرك في تلك الزنزانة المفرِطَة في العتمة. أرضيتها باردة تماما كما لو أنها خندق في أحد معسكرات النازية. خيوط الشمس تموت على أباجورتها المقفلة. وفي قلبه برودة، عمرها مئات السنين. الساعات تتشابه، العيون تحصي المرارات، تسترجع دفاتر اختزنَت ما عبثَت به يداه، وما سحقته قدماه، تحاول استعادة موجاتٍ استُلِبَت إثر عصْفٍ جارف، وجنون طاحن، لم تسلم منه أكاليل الميلاد.
شهريار المنفصم، يقدم على مائدته أصناف الفن التشكيلي، يلون مساحات رمادية غائمة، فلا تمطر، ويحاضر في الخدمة البشرية، ومن حوله صمم.
ألا يكون عزرائيل على هيئة مَن يقصف سكوننا، ويجعل الحياة مقبرة لأنفاسنا، ويرمي أيامنا وليالينا في هوة سحيقة؟ عزرائيلنا أنيق، يطل بربطة عنق، وعطر فرنسي باذخ. يتقن جيدا فنون القتل البارد، وغرْس السهام السامة، والتلذذ بجثث موتاه. في جلسات التعذيب، قد تتوهم أنك لا تعادل شيئا، محاولات مستمرة لاستلاب وعيك، حاضرك، مستقبلك، شل قدراتك، تهميشك، تهشيمك، تحقيرك، تحطيمك… ليبقى هو وحده، المتفرد بخبراته، يفرض عليك أن تطل على الحياة من خلال كوّته، وإلا، ستبقى قابعا في سجنه، يطْعمك من فضله، بوصفه المليك، وأنت العبد المطيع، تؤمَر، فتُنفذ.
في طريق أبناء آدم المتشعبة، يتوزع العديد من البانين أمجادهم على أوجاع الصامتين، ومن الراقصين على قبور الكادحين. لكن، ناموس الحياة قيض لهؤلاء ميقاتا. وساعة يحين، لن يكون سريرا.
كاتبة لبنانية