لعل نظاماً لم يسبق النظام النازي في ما قدمه وتصدر مشهده وقاده نحو هاوية الدمار من مسوخٍ كريهة وشائهة النفس (والبدن أحياناً) ويكفي أن نقول إن ذلك النظام الذي زاوج وجمع بين قمة التطور التقني والكفاءة والانضباط الألمانيين من ناحية، والأفكار العنصرية الهمجية المتوحشة من ناحيةٍ أخرى، لم يضع مشروع التنوير الأوروبي بتصوره البسيط عن نفسه، كخطٍ متصاعدٍ من التقدم محل تساؤل فحسب، وإنما الجنس البشري برمته بما فضح من ميوله ونوازعه الدفينة في جيولوجيا النفس للكراهية والتدمير.
المهم في موضوعنا الآن أن غوبلز، أحد أعمدة النظام الأهم والأقدم، وزير الدعاية والبروباغندا، ذا العداء الأشد سعاراً للسامية، عمد في بداية تلك الحقبة المشؤومة لزيادة تصنيع أجهزة المذياع (الراديو) على نطاقٍ واسع وجعلها في متناول يد المواطن العادي، فإلى هذه الدرجة حرص على تواجد جهازٍ منها في كل بيت؛ في الحقيقة لم يرد من ذلك، إلا أن يكون هو المتواجد في البيت، هو وسيده (هتلر) وجوقتهم، يسمع الناس خطاباتهم النارية المشحونة، فيبثون بصورةٍ متواصلة تصوراتهم ومشروعهم، بما يغسل أدمغة الناس، ومن ثم يعيد تشكيل وعيهم، دامغاً تلك الأفكار في وجدانهم؛ قبل ذلك كان قد فطن وقادة الحزب، إلى أن كثيراً من أفكارهم وممارساتهم، خاصةً تلك العدائية والإقصائية تجاه معارضيهم السياسيين (وعلى رأسهم وأكثرهم عدداً الشيوعيون) والأقليات، لا تحظى بقبولٍ كافٍ من الرأي العام الأوسع. لذا كان لا بد من إعادة حرث تلك الأرض وتمهيدها، لتلقي وقبول هذه السياسات. كان لا بد أيضاً من خلق عدو؛ فالقصة لا بد لها من شرير متآمر يُحشد الناس ويجيشون ضده ويُحمّل كل الخطايا والفشل.
حضر إلى ذهني ذلك الفصل البائس من سفر الفاشية، بينما أتابع قصة عبد الرحيم علي، بعد أن استمعت إلى ذلك التسريب الذي صار شهيراً، وما حفل به من بذاءة وتطاول وتسفيه للقانون، وما أذيع من ثم عن سفره (أو فراره إلى دبي) بعد خسارته للانتخابات، وقبل ذلك بعض التغييرات في قطاع الصحافة والمصارف، وما أثير حولها من تكهناتٍ.
بدون التطرق لتفاصيل الماضي، تكفي الإشارة إلى أن النموذج الفاشي وأفكاره الأساسية، كان لها حضور ملهم في تكون المرجعية الفكرية لبعض التنظيمات القومية، التي ارتأتها نموذجاً لبعث الأمم من حطامها، وانكفائها تماماً كما كانت بعض ممارساتها كالقمصان الملونة والميليشات وعسكرة الأحزاب والتنظيمات. وبالطبع سيطرة الدولة على الدعاية والإعلام، واحتكار السردية والخبر، والكذب ثم الكذب ثم الكذب حتى يصدق الناس. بشكلٍ أو بآخر وجدنا ذلك النموذج في الإعلام والبروباغندا يُحتذى مذ عرفنا الانقلابات العسكرية والحزبية (وربما قبل ذلك) فرُصدت ميزانيات ضخمة للتوجيه المعنوي، والشحن والتعبئة والتهييج ضد عدو ما، ودائماً وأبداً تلميع و»تنجيم» الزعيم القائد، وبطبيعة الحال فقد كان ولم يزل النظام المصري على اختلاف الرؤساء سباقاً في هذا المضمار.
الأكيد أن صراعاً ما يعتمل داخل النظام وحلقات المنتفعين حوله، وأنه مرشحٌ للتصاعد كلما زادت أزماته
من ناحيةٍ أخرى استلهمنا تراثنا بمداحيه وخشداشيته والطبلخانة وشعراء الخليفة، وفقهاء السلطان، وأمثلةٍ عديدة أكثر من أن تحصى، ولما كنا مجددين أيضاً ولنا تجربتنا المستقلة، لا مجرد مقلدين، فقد تخطى نظامنا النازيين، فطوّر بحيث صدق كذبته، لذا فإن السيسي والدولة العميقة والتحالف الطبقي والسياسي الواسع الذي يدعمه، إذ أخذ يعد لانقلابه، لجأ أيضاً لتمهيد الأرض إعلامياً، كما فعل بأزمات الوقود والكهرباء، وإذ وصل إلى السلطة، فإنه أطلق العنان لزمرة من الكتبة والإعلاميين ينهشون لحم المعارضين، بفضحهم بتسجيلاتٍ تخوض في حياتهم الشخصية بصورةٍ قميئة، وتحمل عناوين منفرة. لقد خلق هؤلاء سوقاً للنميمة والخوض في أعراض الناس، سوقا لم تلبث أن تروج وتنتعش وتكتسب جمهوراً واسعاً، صار يستلذ استهلاك تلك البضاعة ويستطعم لحم الناس الحي. في كل ذلك تجد كلاً منهم يصدر عن قناعةٍ راسخة بأنه الأذكى والأكثر حنكةً، إنه «رجل كل العصور» الذي يعرف كيف يمشي على الحبال ويتقافز من واحدٍ لآخر، كلما استدعت الحاجة، فيقفز من السفينة الغارقة في الوقت المناسب، منقلباً شاجباً فاضحاً مجرساً الرئيس السابق، ممجداً ومتغنياً بالرجل الجديد؛ كلٌ منهم يتصور أنه لن يقع كغيره، ممن سبقوه فنافقوا النظام، والشاهد أنهم بدرجةٍ كبيرة، بحسهم وغريزتهم التي صقلها تكوينهم كصعاليك وأوباش ومرتزقة كتابة، فهموا أين تكمن القوة في هذه اللعبة، أي مع النظام محتكر أدوات العنف، لكنهم لم يفهموا طبيعة اللعبة، لم يفهموا آليات عمل النظام، أدركوا كما عبر عنهم عبد الرحيم علي في التسريب، بأن القانون لا قيمة له في ظل أنظمة كهذه (وهو محقٌ تماماً في ذلك) ولم يخش أن يقع هو ضحية غياب العدالة والقانون، لمعوا القادة والزعماء، فنسوا أن الغدر متأصلٌ فيهم. لم يفهموا أن هذه الأنظمة مأزومةٌ في صلبها، تحتاج دائماً إلى عدو، تدور كالرحى لتطحنه ومن ثم تلقي ببقاياه ومخلفاته.
كوحشٍ سارحٍ يفترس ضحاياه، ويفرز فضلاتٍ، تأكل هذه الأنظمة بعضها وتنقلب على أبنائها وخدمها ومن مهدوا طريقها ممن استخدمتهم للوصول، تتخلص منهم كخرقٍ بالية ومتسخة، تقدمهم قرابين على مذبح «العدو» اللازم ابداً محاربته، ويتساوى في ذلك الإعلاميون والكتبة والضباط والمصرفيون ورجال الأعمال وسياسيو الأحزاب المدجنة، وقد تستغل ذلك لتلميع صورتها مدعيةً التطهر من الفساد، وإعمال القانون وبداية صفحة جديدة ونظيفة، خاصةً في ظل أزمةٍ اقتصادية وبوادر تململ لا تخطئها عين المراقب.
لقد أطلق ممهدو الانقلاب من الكتبة هذه الماكينة الجهنمية (في استعارةٍ من الكاتب الفرنسي جان كوكتو) فداست وسحقت في البداية ولم تزل معارضي النظام من كل الأطياف بدءاً بالإخوان المسلمين وانتهاءً باليساريين، ومن لا يعلمون سبباً واضحاً لحبسهم، ثم إذ فرغت من هؤلاء، ولأسبابٍ ومحفزاتٍ شتى، انقلبت تقضمهم هم كما انقلب السحر على الساحر.
جولةٌ أخرى من التصفيات لم نشهد إلا بدايتها، فالطبقة الحاكمة المأزومة، إذ لجأت إلى الضباط للانقلاب على الثورة والانتقام، تنكيلاً بمعارضيها نسيت ربما (أو لم تعرف بالأساس) هي وطبالوها وأبواقها، أن الضباط وأجهزة الأمن في نهاية المطاف ما هم إلا زمرة من الرجال المسلحين، أشبه بالتكوينات العصابية، ولئن كان هذا ينطبق على المجتمعات الأكثر تطوراً فإنه بالأخص يسري على دولنا التي تتوازى وتتجاور فيها شتى مراحل التطور والحقب، حيث تلك الزمر من الضباط تشكل امتداداً ربما لشيوخ المناسر وقاطعي الطريق من القرون الوسطى، فهم مسكونون بالهاجس الأمني أولاً وتعظيم حصتهم من المغانم والسلطة ثانياً، ولا يفهمون العوائق، بدون وضع أيديهم على هذا البناء وذلك المصرف، وبالتالي لابد أن تستعر الصراعات بينهم دورياً ككلاب الحواري فينفلتون يمزقون بعضهم بعضا. لن يتعلم أنصار النظام من الكتبة ورجال الأعمال إلخ، إذ يبدو أن للسلطة في بلادنا جاذبيةٌ لا تقاوم تصور لهم أن الدفء إلى استمرار، وهو وهم الأوهام. قد يستمر بعضهم وينجو، ولكن ذلك في الأغلب يكون نتيحةً لقلة القرب ومن ثم الأهمية النسبية وربما بمحض الصدفة.
الأكيد بعد كل هذا أن صراعاً ما يعتمل داخل النظام وحلقات المنتفعين حوله، وأنه مرشحٌ للتصاعد كلما زادت أزماته، كما أنه ليس بالاستقرار ولا المنعة التي قد يحسبها البعض، ما قد يبرر أيضاً ذلك العنف.
كاتب مصري