نقرأ بين صفحات الكتب المنسية، أن الانسان، في الأزمان الغابرة، كان يصلي ويقيم طقوسا تعنى بالأشياء المحيطة به، كانت مباركة جميعا. شملت القداسة الزهرة، العشب، والمروج، الينابيع، الأنهار والبحيرات، الأشجار والغابات، الجبال، الوديان والصحارى، البركان، البرق والرْعد، ومختلف أنواع الحيوانات، وكذلك أرواح الأسلاف. كان موت أحد الأفراد يحزنهم جميعا، ويشتركون في طقوس الدفن، كما لو أن الميت ابنة أو أم، ابن أو والد كل واحد من القبيلة، وكانت الولادة تثير فيهم مشاعر الانتصار على الموت، يحتفون بكلّ ولادة، إنسانا، حيوانا، نباتا أم نبعا كان. كانوا يتنفسون هواء مقدّسا، ويأكلون طعاما مقدّسا.. الولادة مقدّسة، والموت مقدّس، الوجود مقدّس، وما يجهلونه كان مقدّسا كذلك!
القداسة التي كانوا يولونها للأشياء والظواهر غدت منارات وضّاءة تنير الدروب أمام وعيهم للاحتفاء بالحياة والموت في آن، في دورة لا تنتهي يتحد فيها المعلوم والمجهول لديهم في كيان واحد. كانوا أحياء جدا، ولو قارّنت حيواتهم بحيواتنا ـ نحن أبناء العصر الحديث- يمكن القول إنّهم كانوا أحياء بشكل لا يصدّق، كما لو أنهم بشر غيرنا.
يبدو لنا، بمقاييس ثقافاتنا العصرية، أن الأولين كانوا سذّجا، لا يخلو تفكيرهم من غباء ظاهر! لكن يبدو لي أن الأمر معاكس تماما، ففي الثقافات المعاصرة – ثقافاتنا- لم يعد من مقدّس البتّة، اللهم إلا لو استثنيا الإعلانات الطرقية وغيرها من إعلانات البضائع، أصلا الحياة غدّت بضاعة تباع ويروج لها، نشتري منها القليل، نستهلكها فنشتري بضاعة حياة أخرى.
بلغنا حدّا أصبح الوهم فيه يتغلب على كلّ شيء آخر، وهو وهم مدروس بعناية كي يظنّ الأفراد أن الأشياء باتت في متناولهم، وأن علل الحياة غدت واضحة للجميع، وليس عليهم التفكير بعد الآن في الظواهر ومجاهيل الحياة، لذا تغيب كلمات مثل (تعقّلوا، تفكّروا، الشّك…) من قواميس تفكيرهم، فكل شيء أمسى واضحا جليا، فبلغوا حدا من الجهل المتعجرف ليقولوا إن ما لا يدركونه أو يرونه غير موجود، ينكرون ما لا يبلغونه بمعرفتهم وحواسهم البليدة، بهذه السّذاجة والغباء المفرطين أمسينا نفسّر الحياة ونرسم مستقبل الإنسان والأرض.
نعم، لقد أمسى العالم قرية صغيرة، لكنها متخمة بالبلاستيك وإعلانات الأطعمة والنماذج الديمقراطية، يمكن لواحدنا أن يشمّ رائحة الهمبرغر المشوي في نيويورك بينما هو جالس في القامشلي. كلّ شيء متوفر في الأسواق أو في التلفزيون وغوغل، لدرجة لم تعد للأشياء قيمة، وبشكل أكثر تحديدا، لم يعد للثقافة المحلية أي معنى وتأثير أمام هذا الهجوم والحضور الفج لمختلف الثقافات المهندسة لتفكيرنا وتوجّهاتنا، من خلال إرغامنا على رؤية وتتبع أشياء بعيوننا. غدا الانتقال بين البلدان يسيرا، وقطع مسافات خيالية في سويعات قليلة، كلّ ذلك أصبح ممكنا، لولا أن هذه السهولة واليسر لا تخلو من التبعات، ففي الوقت ذاته، أمسى بمقدور شخص ما أن ينزع جلده كالأفعى، ويتزين بجلد شخص جديد معروض في الأفلام وكتب علم النفس، يمكن أن ينزع عنه مجتمعه، وقطعة الأرض الصغيرة التي عاش عليها جده ووالده، فلحوا فيه وحصدوا عقودا، يمكنه الانسلاخ من أيّ شيء بسهولة، والتحلّي بثقافة جديدة استلهمها من الكتب والتلفزيون. بهذه الثقافة الجديدة، التي لا يتعدى عمرها بضع عقود، ولم تأخذ منه وقتا إلا بضع أشهر أو سنوات تعدّ على الأصابع، يحاكم بها ما كان، ولم يزل، موجودا منذ بضع آلاف من السنين…
غدا الإنسان ساذجا وغبيا ومتوحّشا في الوقت ذاته، لا يقيم وزنا لأي شيء، اختلطت الأجناس والأنواع ببعضها، لم تعد هناك تراتبية بين البشر، لقد غمرت الحياة بوهم التفوّق الفردي، هذا التفوّق الذي منه صدرت جلّ أمراض العصر والقنابل والآفات، وسيقود إلى هلاك الأرض.
لم يعد البقاء على قيد الحياة يستدعي السفر لبضع كيلومترات، والتوغل في الغابات والكهوف من أجل الصّيد والاحتماء من المفترسات، أمست الأشياء متوفرة بكثرة، فإن جفّ نبع في الضيعة، نحفر بئرا ونسلب الأرض المياه غصبا! لما نحتفي بالينابيع؟ لما نحتفي بقدوم الرّبيع بينما يمكننا جلب الربيع إلى منازلنا، على شكل زهور مهجّنة وراثيا. أمسينا نأكل خضار الصيف في الشتاء، وفواكه الشتاء في الصيف، لم تعد دورة الطبيعة تعنينا، أمسى تعاملنا مع الحياة تعامل المستهلك مع البضاعة، ولأنه كذلك، فمزاجنا عرضة لموازين السّوق وتعقيداته، ندير حياتنا بما هو متوفر، ويلبي حاجاتنا اليومية، أعيد التركيز على الحاجات اليومية!
يكفي أبناء عصرنا أن يتسمّروا أمام التلفزيون- هذه المعجزة التي سلبت قداسة كل المعجزات ـ ويتابعوا ما يجري في العالم. كم يحبّون مشاهدة البرامج الطبيعية بينما يتحدث عالم ما عن الأزهار والأغنام والأبقار، عن الحضارات القديمة والثقافات الغابرة، لكنهم في الحين ذاته، لا يلتفتون إلى حرش أشجار لم يزل موجودا، منذ عقود طويلة، في طرف من أطراف المدينة، ولا تثير فيهم الأزهار في ساحات منازلهم وعلى الشرفات أو في البراري أي فضول للتوقف عندها والتمعن في روعة ألوانها، ولا تثير فيهم عيون الأبقار أي شعور يستدعي التوقف عنده والتفكّر فيه، ولو حدث ومرّت جنازة من أمامهم، لا يتكلّف واحدهم عناء السّير في الجنازة ومشاركة الأهالي محنتهم، ولو سمع عن ولادة ما، كأنه لم يسمع… كل ما نعرفه عن الإنسان وعلاقاته، عن الطبيعة وأسرارها مصدره التلفزيون والمسلسلات التلفزيونية والأفلام، والكتب.
غدا الإنسان ساذجا وغبيا ومتوحّشا في الوقت ذاته، لا يقيم وزنا لأي شيء، اختلطت الأجناس والأنواع ببعضها، لم تعد هناك تراتبية بين البشر، لقد غمرت الحياة بوهم التفوّق الفردي، هذا التفوّق الذي منه صدرت جلّ أمراض العصر والقنابل والآفات، وسيقود إلى هلاك الأرض. هذه الحرّية والسلطة الفريدة التي نالها الفرد في العصر الديمقراطي، تمنحانه صوتا وحقّا في قول ما يشاء حول أيّ شيء، مهما كان جاهلا فيه، يمكنه أن يظن بأنه ملك يفتي في شأن رعيته، أو كاهنا حاملا لأسرار الوجود، لقد تخلّق لدى الفرد وهم يشعره بأنه يعيش في مركز الحياة، وأن الحياة تدور من حوله، بينما يجلس أمام التلفزيون، فتتثمل الحياة أمام عينيه على شكل فوتونات ضوئية.
القداسة، سواء تعلّقت بالموجودات الظاهرة من حولنا، والخفية منها، تأتي من حقيقة أن الانسان لا يمكنه سبر الكون، ولن يعرف حقيقة الأشياء وعلّة وجودها بسهولة، وأن الغموض الذي يلّف الأشياء يدفعنا لنوليها شيئا من القداسة، فهي سابقة في وجودها عنّا، أقدم منّا وأعرق، ومنها إنما تشكّلت فلزّات الحياة الأولى، وتحققت شروط الحياة.
بئس الأوطان والبلاد ما لم تعد فيه القداسة والاحترام إلى الأشياء العتيقة المحيطة بنا، بئس الثقافة ما لم تنبع من قطعة الأرض الصغيرة التي فلح فيها الفلاحون دهورا طويلة.
تسقط الأوطان وشعاراتها، تسقط الشعوب وثقافاتها، يسقط الإنسان وقيمه أمام حجم القاذورات التي تطفو فوق نهر» جق جق» في مدينة قامشلي، وتزّين حوافه.
كاتب سوري