كتب أحد القراء الأعزاء معلقاً على مقال «سيكوبات» الذي نشر لي في «القدس العربي» في 2 أغسطس الماضي متسائلاً «حقيقة، أتساءل: هل تغير موقف الكاتبة الليبرالي، وأصبحت تمقت العالم الغربي الآن بعدما كانت تكيل له المديح بالتلميح ساعة أو التصريح ساعة أخرى في مقالاتها الكثيرة؟ هل تاب العلمانيون العرب والليبراليون من مواقفهم تجاه الحضارة الغربية وهم اليوم يرون فشلها الذريع في وأد أكبر إفساد عرفته البشرية في القرن الحادي والعشرين؟»، جاء هذا التساؤل الكريم بعد سلسلة من المقالات التي كتبْتُ وما زلت وسأستمر في كتابتها على إثر جريمة الإبادة التي يمارسها الكيان الصهيوني، بتأييد ومساندة الحكومات الغربية ضد غزة والفلسطينيين عموماً، والتي أتحدث من خلالها، نقداً وغضباً ومقتاً وكراهية، عن نفاق الموقف الغربي حين وضعته جرائم هذا الكيان على محك الاختبار.
لا يمكن أبداً نفي الأزمة الفكرية الوجودية التي يمر بها العديدون منا على إثر رؤية هكذا إبادة بشعة لمدنيين وتحديداً لأطفال، كلهم يتقطعون أشلاء على مرأى ومسمع من العالم، دون أن تحرك الحكومات الغربية ساكناً، أو على أقل تقدير دون أن تحاول ولو فقط محاولة أن تبدو متوائمة مع القيم الحضارية التي طالما تشدقت ثقافاتها بها. لا بد أن كل إنسان «طبيعي» مهما كان توجهه الأيديولوجي والفكري، أن يمر بأزمة وأن يراجع حساباته ويتفحص منظومة القيم الإنسانية المعاصرة، معناها وحقيقيتها، أمام هكذا بشاعة ترتكبها حكومات الحضارة التي رسخت هكذا قيم. فهل أعيدُ التقييم وأراجع الحسابات وأحاسب النفس؟ بالتأكيد أفعل، فأنا بشر، أعيش حياة متغيرة ديناميكية تتطلب مني مراجعة مواقفي ومفاهيمي، ومن لا يفعل يكون حقيقةً ميت الروح، متوقف التفكير، بداخل جسد آلي متحرك.
لكن ذلك لا يعني أن تقييم وتقدير الخطوات الحضارية الغربية، التي هي في الواقع نتاج حضارة بشرية طويلة ممتدة، قد انتهى في نفسي، ذلك أننا نرى نتاج تطور الفكر الحضاري الغربي منعكساً على سلوكيات شعوبه التي تتخذ اليوم مواقف مشرفة ومذهلة تجاه القضية الفلسطينية في تحديات سافرة وباهظة الثمن تجاه حكوماتها. لا تقدم الشعوب العربية جزءاً مما تقدمه الشعوب الغربية، تظاهراً وغضباً ونشراً على وسائل التواصل وتحدياً للمواقف الحكومية الرسمية، بل ومن خلال تحد شبابي للإدارات الجامعية؛ نصرة للقضية الفلسطينية الغزاوية، حيث تتبدى هذه المواقف كنتاج لقيم الحضارة الغربية المذهلة في العديد من جوانبها، والمنفصلة عن المواقف السياسية، التي رسخت لمفاهيم الحريات والحقوق والتخلي عن العنف العسكري لصالح مدنية متحضرة تحترم الشعوب وحقوقها الثقافية. علينا دوماً أن نتذكر أن مثل هذه البشاعة الصهيونية قد مرت علينا مرات عدة في تاريخنا البشري، بل وكانت في صورها المرعبة من الذبح والحرق والاغتصاب، معتادة كجزء من السلوك الحربي، إلى أن جاءت الحضارة المعاصرة التي هي مرة أخرى نتاج تاريخ بشري طويل، لتنقلب على هذه السلوكيات وترفضها كأفعال جرائمية حتى إبان الحروب. إن استنكارنا لما تفعل إسرائيل الصهيونية هو نتاج ترسخ المفاهيم الحضارية الجديدة في نفوسنا، وعلينا -حتى نكون واقعيين- ألا ننسى ذلك.
شخصياً، موقفي لم يتغير كثيراً تجاه السياسيين والحكومات الغربية خصوصاً من حيث سياساتها الخارجية، هي أنظمة وحكومات ما رأينا منها خيراً قط، وهي في نهاية الأمر حكومات وأجهزة إدارية لا ضمائر لها ولا مشاعر، حالها كحال أي آلة جامدة تطحن بين تروسها كل من يقف في طريقها في سبيل تحقيق مصالحها. وبلا شك، لم يتغير موقفي تجاه المفاهيم الأيديولوجية الناتجة عن الصراع الثقافي الطويل للحضارة البشرية ثم الغربية وتجاه نتائج تطبيق هذه المفاهيم العظيمة على البشرية. لم أكفر بمفاهيم الحرية والعدالة والمساواة وحكم الشعوب لنفسها والديموقراطية، لم أكفر بقيم السلام والتعايش والتسامح وقبول الآخر المختلف مهما بلغ اختلافه، لم أكفر بمبدأ حرية اعتناق أي عقيدة وكذلك عدم اعتناقها مطلقاً، لم أكفر بفكرة أن ما نعرف كبشرية هو أقل بكثير مما لا نعرف، وبأن معظم قطعياتنا خاطئة، ومعظم أطرنا التي نقسم بها أنفسنا من عرق ولون وجنس، إلى الحديث منها كالجنسية، هي أُطر ساذجة عنصرية بالكاد قادرة على أن تحتوي تنوعنا واختلافاتنا. لم أكفر بما تعلمت من الحضارة الغربية ولم أتناس آثارها العظيمة على البشرية، إنما كفرت بقدرة بعض الحكومات الغربية على إخفاء سوأتها التي اعتقدت أنها، مهما بلغ بها مبلغ الانحطاط السياسي، لن تهبط لهذا الدرك الأسفل من السلوك على الأقل حفظاً لماء وجهها.
بالتأكيد، لا يمكن إنكار قيمة الحياة المرتفعة التي يعيشها الشخص الغربي، ونوعية الحريات التي يتمتع بها، وأهمية رأيه العام، وقدرته على المشاركة بعض الشيء في حكم نفسه وتحديد مصيره، إنما المفاجأة تجلت في اهتزاز الكثير من هذه المكتسبات لعيون إسرائيل الصهيونية، وفي لجوء هذه الحكومات للعنف حتى مع شعوبها حال تباين موقف الشعب مع موقف الحكومة. لقد سقطت الحكومات الغربية ليس في اختبار القيم والأخلاق، مرة أخرى هي مجرد حكومات، آلات وأجهزة، لا مشاعر لها ولا مبادئ، إنما سقطت في مقدرتها على الاستمرار في إخفاء تروسها الحادة وتجميل قبحها المصلحي. في لحظة الحاجة، ظهر الوجه الآخر وتجلى القبح وتبدى النفاق في أعلى صوره، بشكل ودرجة ما تصورنا رعونتهما وجرأتهما ولامبالاتهما.
ورغم ذلك، رغم المواقف الحكومية الغربية المتخاذلة تجاه واحدة من أعمق المآسي الإنسانية، ورغم لجوء هذه الحكومات للعنف مع شعوبها المتظاهرة، ما زال هناك نظام داخلي يؤمن للمواطن الغربي حقه في التعبير والتظاهر والاحتجاج، التي هي حقوق ترسخت عميقاً في الوعي الغربي نتاج حضارة طويلة ممتدة استطاعت إخراج نفسها من واقع دموي إلى واقع أكثر تحضراً وتطوراً قيمياً.
أكذب إذا ما ادعيت أن مأساة غزة الحالية لم تدخلني في نفق وجودي عميق دفعتني ظُلمته لمراجعة كثير مما أؤمن به، بل ولتغيير مواقفي تجاه تكوينات سياسية محلية ما تخيلت في يوم أنني سأعطيها فرصة قبول أو مساندة، إلا أن ذلك لا يعني تغيير موقفي تجاه الحضارة الغربية بمجملها ليتحول إلى اعتقاد بفشلها التام، هذه فكرة ساذجة انفعالية لن أمتطي صهوتها في رد فعل طفولي وكأنني «حردانة» بعد أن خيبت الحكومات الغربية آمالي. لم تكن لدي آمال في الحكومات الغربية أصلاً ولا في أية حكومات في الواقع، لم أقدس رموزاً ولم أصنع أبطالاً من قياديين وساسة لا في ماضينا البشري ولا في حاضرنا، اللذين هما؛ أي التقديس وصنع الرموز، آفات عربية بامتياز.
القضية الفلسطينية والمعاناة المطولة والجرائم البشعة المرتكبة بحق شعبنا الفلسطيني، كل ذلك يستحق منا جميعاً موقفاً حقيقياً في تقييمه وسلوكه، لا غضبة تجاه حضارة طويلة ممتدة ومفاهيم وقيم ربما رسختها الحضارة الغربية كنتاج لتعاضد بشري طويل. موقف «خلاص زعلت ومش لاعبة» موقف أصغر بكثير من عظمة قضيتنا الإنسانية ومن تضحيات شعبنا الفلسطيني العظيم.