لن توجد جمهوريتك يا سقراط

من الحكمة، أن تساهم الفلسفة في تدبير الدولة المدنية: «ثمة التزامات سياسة تنيرها الفلسفة، أو حتى قد تكون الفلسفة سببا في ضرورتها، ولكن الفلسفة والسياسة متمايزتان، فالسياسة تهدف إلى تحويل، الاوضاع الجمعية، في ما تسعى الفلسفة إلى طرح مشكلات، جديدة للجميع، تتعلق بالنضال السياسي المباشر، وبإمكان خصوم العقل أن يتهموا الفلسفة بالغموض والتجريد، بيد أن مهمة الفكر تتجاوز حدود الواقع الملتبس، من أجل خلق المسافات، بين المشاكل والحلول، وبعبارة أخرى، فإن اليوتوبيا السياسية ضرورية في بناء السياسة العملية، فمن خلالها تشرع الإرادة، الطيبة للحرية والمساواة والسعادة.
أما أن يقال للفيلسوف: «لن توجد جمهوريتك في أي مكان» فسيجيب قائلا على لسان سقراط: «في كل الأحوال لعلها ستوجد في مكان ما غير بلادنا».
فالفلسفة لا تعبر عن نفسها إلا في دولة الحرية، حيث يصبح التزامها التزاما سياسيا، أي التزام مواطن يشعر بأنه لم يعد غريبا يمشي في طرق الصمت، بل يساهم في بناء
المشروع النهضوي، ليس بمعناه الفلسفي، لكن بمعناه العقلاني .ما لم نحتفل بميلاد الفكر الفلسفي في آفاق السياسة المدنية، فإن الانحطاط سيظل هو شعار المرحلة، ذلك أن الفكر هو الوسيلة المناسبة للكوني، مع العلم أن الكوني في الحقوق السياسية، لا يمكن اعتباره إلا من خلال إنتاج أو إعادة إنتاج مسار منحن للفكر: «لا يمكن اعتبار الكونية الواقعة لعبارةٍ سياسية إلا عبر الممارسة النضالية التي تفعلها». وبما أننا لم نحقق الكوني في السياسة، فإن انتشار عقل الأنوار يظل مستحيلا، وإذا لم ينتشر هذا العقل في جميع البيوت، يبقى مصير الفلسفة بين يدي التيار العدمي، يفعل بها ما يشاء، ولن يكون حكمه أقسى من حكم الغزالي، بيد أن التشبث بالانحطاط باسم الدين يمكن اعتباره هو الفكر بعينه، لأنه يستغل الكذب في الدين، فالسياسة حدث زائل، من خلالها يعلن الشعب عن وجوده ويمضي قدماً من الانحطاط إلى التقدم، من الاستبداد إلى الديمقراطية، ولن يخرج هذا الأمل إلى الوجود بدون التقاليد العالية للفلسفة الأندلسية، ومن المستحيل دمج الدين، باعتباره حقيقة أبدية، في السياسة كحدث زائل، إلا عند النزعة العدمية التي انهزمت في المجتمع العلمي.

يمكن اعتبار الكونية الواقعة لعبارةٍ سياسية إلا عبر الممارسة النضالية التي تفعلها». وبما أننا لم نحقق الكوني في السياسة، فإن انتشار عقل الأنوار يظل مستحيلا.

وانهارت أمام السلطة الموفية لكي تعود إلى العقيدة الأشعرية في معناها الظلامي وتستثمرها في أيديولوجيتها السياسية، كم هو ممتع هذا الزنديق الحكيم الذي يريد تحرير أمته من العبودية والانحطاط، وكم هو حقـــــير هذا الداعـــية الذي يريد قتـــل أمته وإخضاعها للطاعة العمياء والهيمنة المطلقة، وتسخير مبدأ عدم الإرادة إلى أن يتم الاستسلام للهـــزيمة بالعدمية، التي تبشر بنهاية العالم قبل الأوان. هذا الموقف الشرس هو الذي اتهم الحكمة بتهمة الزندقة، وأراد أن يدمر هذه الأمة، ويقتل فيها إرادة القوة، وينشر الظلام والرعب .ومهما يكن فإن الجوهر الإنساني لا ينتظر الإنسان الأسمى ليتحدد، إنه مجدد كإنساني، وإنساني جداً، وربما أن هذه الرسالة قد لا يسمعها من أصابهم داء الصمم، ومع ذلك نتساءل، إلى أي مدى سيظل هــــذا الأمـــل فاقدا للأمل؟ ومن يستطيع إنقاذ هذا الأمـــل؟ ولماذا الأمل، يظهر في صورة الفكر والمعرفة؟ وكيف يمكن تحريك هؤلاء الذين لا أمل لهم نحو متعة الفكر؟ لا بد لهذا الليل أن ينجــــلي، من أجل فسح مجال أمام الإرادة لنخلق قيما جديدة، تستند على الأخلاق، أكــــثر مما تلقي بنفسها في الثيـــولوجيا، لأن الُثيولوجيا هي تأويل للدين، تبعده عن ماهيـــــته، تحوله إلى أيديولوجيا غرضها الإخضاع والطاعة ونشر إرادة العبيد، ونظرا لكثرتهم، فإن لهم سلطة العنف على الحكماء، لأنهم، لا يقرأون، ولا يفهمون، ولا يريدون: «إفعلوا ما تريدون، ولكن كونوا أولا من الذين بإمكانهم أن يريدوا»، هكذا يخاطبهم الفيلسوف بتهكم، مادامت أرواحهم تولد ميتة، أو بالأحرى، يتم اغتيالها، ومن الصدف الحزينة أن الروح عندما أرادت أن تجرد نفسها من الأوهام، وجدت نفسها محاصرة بالأساطير والخرافات، ولم تجد سوى الاستسلام لقدرها الحزين. فقدر هذا الشعب حزين، ولكن إلى أي مدى سيظل كذلك؟ ومن المسؤول عن هذه المأساة؟ وكيف يمكن أن يقبل قيما جديدة وفكرا فلسفيا حديثا وأخلاقا علمية وسياسية؟ بل أكثر من ذلك، من سيقوم بهذه الثورة الفكرية؟
الواقع أن الفلسفة هي الشكل الأسمى الذي تؤكد فيه الحقيقة وجودها، ولذلك فإن التي اضطهدت الفلسفة تحرم الحقيقة من الوجود، ثم تهاجر كطائر جريح يتذكر مأساته مع الفلاسفة الذين حكموا بتهمة الزندقة، ومع ذلك ظلوا حكماء. وبما أن المسافة بين الحكمة والزندقة تمتد من القرون الوسطى إلى يومنا هذا، فينبغي صياغة اشكالية التوفيق بين الحكمة والزندقة، بدلا من إشكالية التوفيق بين الحكمة والشريعة، من أجل تدمير العقل الأسطوري والقضاء على أوهامه، فبأي معنى يكون العقل الأسطوري هو مبدع للزندقة، وما علاقته بالحكمة والحقيقة؟ ولماذا ظل يسيطر على الأرواح الثيولوجية إلى هذا اليوم؟ وما قيمة هذا الكتاب في هذا الزمن الرديء؟

٭ كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية