يحصد الموت اليوم، بشكل لامع، جملة من الأرواح، من بينها رحيل أسماء وأسماء في الثقافة بأشكالها المختلفة: في الشعر والقصة والرواية والنقد… فبدت الخدوش واضحة في أفقنا العربي المعطوب على أكثر من صعيد. وامتد الأمر للتسيير الثقافي المعتل، في واقع مختل بنيويا.
من بين الاختلالات التي تحضر بقوة هذه الأيام طمس ونسيان أسماء إبداعية، تعتبر أعمدة المشهد، بعد مغادرتها الحياة، لكنها تركت أفكارا ورؤى في حاجة إلى تفاعل وصيانة وكياسة. ومن الملاحظ، أن أصوات الآخر (كتابا، مؤسسات، إعلاما…) تنتحب نعيا ـ بعد ذلك الرحيل ـ إلى حد يبلغ الصوت السماء. وسرعان ما تخفت وتعود لعادتها المتكلسة متفرجة على المشهد المقيت المدفوع بالاستهلاك ولو السياسي منه، والخالي من الأفكار والرؤى إلا من حضور هوامش صغيرة تتداول حرقة الثقافي، وتصر على أولويته كمنير وموجه لأي طريق.
مع هذه الوضعية، تضيع الأسماء التي تركت أثرا للمشي. وهو ما يبعث على طرح السؤال الذي لا يهدأ ولا ينام، من قبيل ما موقع الذاكرة الثقافية في المجتمع؟ وما دور أو أدوار المؤسسات بتلاوينها المختلفة، السياسية، منها الرسمية التي لا تأبه لأحد وبالأحرى لمبدعين، والإطارات الحزبية التي تؤثث هياكلها بالأشباه دون تصور ثقافي، تقديرا لمكانة المبدع في الحياة والموت، إلى أن تصل إلى المؤسسات الثقافية وكأنها محتلة من قبل ملل وأفراد. ما أدى إلى شخصنتها منتصرة إلى بعض الراحلين من الكتاب وتسقط آخرين غير مفكر فيهم، نظرا لضيق الأفق والتضايق من وجودهم أصلا. وبغض النظر عن ذلك فماذا قدمت هذه المؤسسات للثقافة وللكتاب بعد وفاتهم.
من أين نبدأ؟ ونسير على الحافة، لنكون في المجتمع مجتمعا. ماذا لو طرحت المؤسسات الثقافية هذا السؤال الحارق. لا يمكن طبعا أن يتحقق ذلك إلا إذا تحرر المثقف من الذيلية والتبعية وأحيانا الخواء. لا بد من مؤسسات ثقافية متحررة ومستقلة، لكي تلقن درس الثقافة للجميع.
ألا يمكن إعادة طبع أعمالهم واحتضانها كمواليد، سعيا إلى تداولها والبحث عن سبل لذلك، انفتاحا على المؤسسات كافة في المجتمع. نعم هناك إكراهات: النغمة المتكررة من قبل الميليشيات الثقافية، لكن الإصرار على الثقافي في دفة التسيير الذي لا يختلف عن الحكم العربي وجنون البقاء حتى ولو تخرب الكل. فسؤال الذاكرة يطرح نفسه اليوم بإلحاح، مواجهة للطمس والتغييب، ضمن مجتمعات غدت استهلاكية وذات نزوع فردي بمعناه القريب دون رؤية أو أفق. لهذا وذاك، لا بد من النهوض بأدوار.. وهي أشغال المؤسسات الثقافية التي تنشط موسميا فقط، بهدف رد «الدين» قبليا، ما يكرس الدائرية دون أعمال جليلة من قبيل الأرشفة والمساهمة في جمع الندوات التي تقام لهذا الغرض، أي التجميع والتداول، لا أن تبث في الهواء بكامل الادعاء المصور. يغلب ظني، أن المبدع الراحل في حاجة أن يقرأ أولا دون أحكام مسبقة، وأن تصل كتاباته للناس. فلا بد إذن من تلك الخانة المتعلقة بالذاكرة في هذه المؤسسات، لحفظ عطاءات الراحلين، ليبقوا على حياة، من خلال طبع إنتاجاتهم غير المحدودة الأثر في الزمن، بل لتكون ملازمة للإنسان.
نحن في المجتمعات العربية في حاجة إلى عمل ثقافي جماعي، يتحرر أكثر من أوهام الأفراد وانتهازيتهم المفضوحة المتمثلة في ميولات لا صلة لها بالثقافة ومؤسساتها التي غدت «مفروضة» أيضا، لأنها تشتغل بمنطق السياسيين المتحزبين نفسه والأنظمة نفسها في الرصد والحراسة للأركان. وهو ما اقتضى الإقبار والإبعاد، سعيا لمنافع آنية وظرفية. في الوضعية نفسها يطغى الشعار والتلون والتزلف.
المبدع تحت الأرض ينتظر امتداده على هذه الأرض، اعتمادا على صوته الضائع في هذا الكل المفرغ من معنى المعنى والحياة. وهو ما يؤكد وجود ميثاق سلالة الكتابة المبطن والساري في النصوص المؤسسة. فلا بد من التفكير في آلية حافظة للمتون. وتداولها بشكل واسع. لتتعاقب وتمتد في الزمان والمكان. لهذا ينبغي تدريب النشء على ذلك، من خلال التعرف على ما يؤسس ويبني قدرات الإنسان جماليا وعقليا وعاطفيا.. وإلا غدت الحياة رتيبة وبليدة. وقد تتحول إلى حظيرة. فبئس المأوى والمصير.
من أين نبدأ؟ ونسير على الحافة، لنكون في المجتمع مجتمعا. ماذا لو طرحت المؤسسات الثقافية هذا السؤال الحارق. لا يمكن طبعا أن يتحقق ذلك إلا إذا تحرر المثقف من الذيلية والتبعية وأحيانا الخواء. لا بد من مؤسسات ثقافية متحررة ومستقلة، لكي تلقن درس الثقافة للجميع. آنذاك يمكن احتضان الغياب حضورا.
كاتب مغربي
نبش جميل في واقعنا المترهل …الذي لم تنفع معه كل المرهمات و المساحيق …فأصبح مسخاً ينوء بنتوءات الماضي و الحاضر