إن عالمنا مليء بالأصوات التي نستطيع سماعها، بل إن الموجات فوق الصوتية التي لا تستطيع آذاننا التقاطها تفوق ما نسمعه بكثير. يعتقد كثيرون أن الضوضاء عنصر مهم من عناصر التأثير في توازننا النفسي والعضوي. هناك أبحاث تتحدث عن التأثير العلاجي للأصوات، وتشير الى أن الاستماع لرتم صوتي معين يمكنه أن يساهم في علاج كثير من الأمراض. هذا الرتم ـ بحسب كل معتقد- قد يكون تلاوة قرآنية، أو تراتيل انجيلية، أو حتى دقة بمطرقة على صحن ‘غونغ’ كما يسميه الصينيون ويصدر كتلة من الموجات الصوتية تغطي كل درجات السمع التي يمكن لأذن الإنسان التقاطها. كل الأديان تؤمن أن الاستماع للتراتيل الدينية له مفعول علاجي جسدي، ويصلونه بعلاج الروح. المهم، أننا بإيماننا أن الصوت له قدرة علاجية حقيقية، فإن من البديهي أن نؤمن أن للصوت أيضاً قدرة على إصابتنا بالمرض وإتلاف أجسادنا وأرواحنا. وقد يسأل سائل: لمَ لم يكن من بين النعم أن تتوفر لأجسادنا الميكانيكية لحجب وتمرير الأصوات وقتما نشاء؟
نحن نشارك في صنع ضوضاء هذا العالم، لكننا نشارك باختيارنا- وندرك أن تلك الضوضاء تختلف عن كل شيء آخر يمكن سماعه، إنها الضوضاء المحفوفة بنوايا الاختيار المعلنة والمستترة على حد سواء! وهي الضوضاء التي نسميها نحن: الكلام. النوايا المعلنة قد تتوفر في أصوات الحيوانات، لكن المستترة تلك لا تخرج إلا من فوهة إنسان! وكما قال نابليون فإن عشرة متكلمين يمكنهم صنع ضوضاء تفوق ما يتسبب به جمعٌ من عشرة آلاف صامت.
أحياناً نسمع ما لا نطيقه فنتمنى لو أننا لم نسمعه، بل أحياناً يخترق أسماعنا شيء لا نريد سماعه، ثم بمجرد سماعه نشعر بأننا لم نعد كما كنا. السمع كحاسة يختلف عن القدرة على الكلام. نحن لا نملك الخيار لاصطفاء ما نسمعه، على الأقل ليس بقدر قدرتنا على انتقاء ما نتفوه به ـ ومع هذا نتفوه بكثير من التفاهات. نحن نملك اختيار أن نصمت حتى إن لم نستخدم هذا الخيار إلا نادراً، لكن اختيارنا ألا نسمع يبدو تحدياً صعبا. وبينما يسمى الصمت معظم الأحيان ‘حكمة’ فإن الصمم عن السماع يبدو حلاً غير منطقي في مواجهة ما يزعجنا.
قال الأديب الراحل ميلان كونديرا إن للضجة حسناتها فمعها لا يمكننا تمييز الكلام. تلمست في هذه الجملة عمقا رهيباً ـ حتى إن لم يقصده كونديرا، فقد خطر لي ان الضوضاء التي لا نملك اختياراً لسماعها قد تكون أحياناً حلا للضوضاء التي يختار الناس التفوه بها. وقفزت حينها إلى التفكر في كل الأشياء التي لا نملك الإرادة عليها ويمكن أن تكون أفضل مما نمسك بزمامه، ولو كان هذا الأمر يفسر ميل كثير من الناس إلى أن يختار لهم الآخرون ما كان يجب عليهم اختياره بأنفسهم.
بقيت ساعات أفكر وأنتقل من مسألة إلى أخرى، ثم خلصت إلى التمني لو أن الصمم كان اختياراً يمكن الذهاب إليه والعودة منه، كاختيار الصمت عن الكلام، أو كاختيار أن تضغط زر الكتم ‘mute’ لإسكات التلفاز ثم تضغطه مرة أخرى للسماح للصوت بالعبور إلى أذنيك. ثم تذكرت، أن تحقق الأمنية لم يكن ليحل المشكلة، والدليل أن الناس تملك خيار الصمت والكلام، لكنها غالباً ما تسيء استخدام الاثنين!
كاتب وإعلامي إماراتي