ربما يكون العنوان صادماً بسيميائيته التي تفسّر ملفوظاً إشارياً إلى حميميّة الجلسات التي عاشتها «مي زيادة» أو «إيزيس كوبيا» الاسم الذي كانت تذيّل به مقالاتها، وأراده الكاتب الجزائري واسيني الأعرج عنواناً لإحدى رواياته، مستثمراً اسمه المعروف في عالم الرواية، وهذا حقّه، إنما من أجل تقديم موقف حقّ يبدو جلياً بقليل من التفكّر أنّ ما يُراد به باطل. ودائماً مع احترامنا للروائي الذي كان لنا شرف التواصل معه هاتفياً غير مرة في زياراته لبيروت ولم تسعفنا الظروف للقائه، وادّعاؤنا أننا هنا في شغل نقدي، قد يتصل إليه بالسماع أو القراءة وقد لا يتصل، لكنه يبقى بالنسبة لنا واجباً أخلاقيا.
وإذن، فإنّ مي زيادة هي نفسها «إيزيس كوبيا» والليالي التي أرادها الأعرج هي لتلك المرأة، التي حاول الإفلات من التحرّج عندما طرح لنا اسماً غريباً في صبغة فانتازية لمُدوّنة سردية أسماها رواية هي «مي: ليالي إيزيس كوبيا» (صدرت عام 2018 عن دار الآداب بيروت) دفعاً بالقارئ إلى البحث في أصل ابتعاث هذا الاسم لدى مي نفسها، وتطلعاً إلى الرفع من أهمية نصّه بدءًا من عتبته الأولى. لكن لنا أن نقول إنه من السذاجة بمكان أنْ نروّج لكلمة «ليالي» مرتبطة بامرأة ما بالمُطلق في هذا العالم، دون تثوير الشبهة في دلالاتها وغايتها، ولو أن مُطلِقها ربطها بالمصحّ النفسي «العصفورية» في بيروت، في الوقت الذي كان في إمكان الكاتب أن يبتدع لفظاً آخر يخدم فنية سرديته الحكائية، بعيداً من استثمار سيرة حياة أديبة ورائدة نسوية عربياً بهذا التوليف الإيحائي الممجوج، لا سيما أنه لم يغادر موقفاً في سرديته إلا وربطه بمشاعرها التي هي ملكها وحدها، فضلاً عن استحالة تنبئه بها وعن أي نيّةٍ صدرت؛ فلربما كان البعض يتعشق مي زيادة وهذا أمر غالباً ما يحدث في عالم الأدب والأدباء المليء بالشخصيات الحالمة وفضاءات التخييل والنرجسية المشروعة، كما إن التغزل بها غالباً ما جاء من باب الطرافة والمُلَح والإيحاء، لكنها لم تكن مطواعة ولا مغناجة ولا امرأة لعوب كما يوحي الكاتب حتى سمح لنفسه بأسلوب فضائحي أن يورد على لسانها وهي تتحدث عن تقرب العقاد منها: «لم أكن مُهيأة للنوم معه» في إيحاء خطير وسيء بأنها ممن يمكن النوم معهن! مع ما يطرحه ذلك من السؤال الملحّ حول جدوى بسط هكذا كلام فيما يسميه الأعرج «رواية» يدّعي فيها أنه يريد إنصاف زيادة، ولا نجد إجابته إلا في حدود ما أراده من اختزال حياتها في حيز الأحاسيس والعلاقات الخاصة والحميمة، ودليل ذلك تجاهله الإضاءة على ما جسدته مي رائدةً لثقافة الصالونات الأدبية للمرة الأولى على مستوى الوطن العربي، مع ما تخللها من حوارات السياسة والأدب والاجتماع مع طليعة التنويريين من طه حسين والعقاد وخليل مطران وصروف وغيرهم، وما دار بينهم من محاورات ونقاشات ورؤى فكرية معروفة للقاصي والداني.
ومنذ انطلاقة مرويته، يبدأ الأعرج بالحديث عن «عُشّاق مي» فوراً متسللا إلى لا وعي القارئ بأنه إنما يوصّف مواقفها مع آخرين، على قاعدة أنه يترك للأحداث سيرورتها ببراءة الراوي غير العليم، وأنّ مسألة التعشّق والعشاق كانت أمراً طبيعياً في حياة هذه المرأة، ما يشدّ القارئ، عفواً أو قصداً، إلى الإبحار في متون السرد فضولاً وحماسة ولو حملت دلالات الغمز واللمز بحق تلك المخلوقة، ثم هو يحدثنا عن أناسٍ مُقرّبين من مي التقاهم بنفسه، من عجائب الصدف أنهم جميعا مجهولو الهوية؛ فأحدهم «لا يريد ذكر اسمه ولا نشر صورته» (كرّرها الأعرج ثلاث مرات) وآخر رجل دين مع عجوز هي إحدى أخوات دير عينطورة التقاهما في «جونية» طلبا أيضاً عدم ذكر اسميهما ولا نشر صورتيهما، لكنّ الأخيرة طلبت منه وممن معه «إنصاف مي زيادة» لِمَا توسمت فيه «من صدق» حتى وقعنا في أحجية التكهن بهؤلاء الأشباح، سِماتهم، أسماؤهم، وظائفهم، وصحّة وجودهم حقيقة، وصدق ما قالوه من عدمه.
من ناحية ثانية، نحن لا ننكر أحقية الأعرج في تضفير حكايته بالتخييل، لكن ليس من باب وقائع السياسة والتأريخ، لا سيما في بلد كلبنان لا شيء فيه بعيد من التسييس، منقسم عامودياً في الطائفة والمذهب والمنطقة والشارع والزاروب، حيث يغمز من باب إحدى الجهات السياسية، ناخراً في شرعية ملكية عقار يدّعي أنها «غير قانونية» في جملة إنشائية فاقعة تريد الإعلان عن مخالفة تحصل في بيروت، عالماً أو متجاهلاً بأنّ هذا يعدّ في لبنان «حكي في السياسة» لا علاقة له به لا من قريب ولا من بعيد، ولا يمرّ مرور الكرام إلا إذا حفظ كرامات الناس، لا بل لربما سبّب له مشاكل كثيرة لولا حسن حظه أنه تناول الجهة السياسية التي لا تملك ما ترد به على الافتراءات غير العلم والقلم، مع التأكيد دائماً أنّ ما نسوقه ليس دفاعاً عن أحد، بل إضاءة على وجوب الحيادية لأيٍّ كان فيما يريد سرده حول الوضعية اللبنانية الداخلية المركبّة المصالح، في نظام عجيب يمكن للجميع التبرؤ منه أو استغلاله في وقت واحد، ما يحتّم المعادلة التالية: إما التكلم على فساد الجميع، أو السكوت عن الجميع.
من المفيد الإشارة هنا إلى أن الأعرج تعمد أسلوب «الفلاشات» المزيغة للأبصار، لا فنية السرد الروائي، مع وعينا بأنه لا يمكنه إلا أن يطلق عليها اسم «رواية» ليحافظ على بروفايله في «فترينة « الرواية العربية حيث، وبنفس زاوية الرؤية الأحادية، يسترسل مخبراً عن «مجزرة» المباني التاريخية في بيروت التي قلبه عليها، ومنها مبنى «العصفورية» الذي يأوي مرضى نفسيين في محاولة لاستدرار عطف القارئ، وهو يخبرنا كيف تمّ «رميهم» خارجها بعدما تم الاستيلاء عليه، حين كان يجدر المحافظة عليه، وأن في ذلك «تغيير ذاكرة المكان ونقل مركز بيروت …» إلى أن يردد الجملة الشهيرة في لبنان عن بيروت التي «فرِغت من أهلها» والتي ربما كان ينتظر أن يقف أهلها موقف المتفرجين على دمارها، ضنينين بإعمارها بعد حرب دموية طاحنة أهلكت البلاد والعباد، متناسياً أنّ كلّ مدينة مستحدثة في العالم لها وسط تجاري لجلب الاستثمارات ورؤوس الأموال، فهل هذا حلال على غيرنا وحرام على بيروت؟! .
حتى اللّحظة فللأعرج حرية الخلفية والغاية فيما فعله، لكننا نبسط نصّاً ملأه بمرويات غير موثّقة وضعتنا أمام كتاب تاريخ بغير شواهد، يهين فيه مي زيادة، من حيث يدري ويعلم، ويهين من ورائها اللبنانيين، وهي التي تُعدّ نموذجاً متألقاً في ذاكرتهم الأدبية، ساعيا إلى الاستفادة من اسمها المُربِح جدا، مع ما اقتضاه ذلك من حديث في تفاصيل حياتها، دون أن يقدّم وثيقةً ماديةً واحدة تؤكدها، في ما أسماه «رواية تاريخية» وحيث لنا حقّ التنبه إلى أن مدوّنته، مع غيرها كثير، بدأت بتحويل الرواية العربية إلى آراء شخصية خاصة لا يُمكن إلزام أحد بها، ما بدا واضحاً تماماً في «إيزيس كوبيا» التي ضفّر فيها بعض المواقف بالبُعد الشاعري الحميم، الذي تحول بالسرد عن كونه إبداعاً في الأصل، إلى مِرفق كلامي يتيح استغلال لعبة فنية قديمة جديدة ذات وجهين في كل واقعة أوردها؛ فإن صدّقناها فهذا يؤكد أنه قال الحقيقة، وإن كذّبناها فمبرّره أنه أعمل فنياته، التي ليست حقيقة بالضرورة، وهو ما ورّطه في تحويل هذه «الرواية» إلى حكاية تبتعد عن اللغة الروائية وتنهض على جُمَل خبرية فحسب، لا نعلم أين دورها في تطور الذائقة الجمالية للمتلقي، وما علاقتها بمنجز كتابي المفترض أنه رواية إنسانية. إنه اللّعب المؤذي على حبلَي الحقيقة والفن، الذي جعل من مي زيادة «مكسر عصا» بل هدفاً لآخر صرعات الاستثمار في سيرتها.. الصرعات التي نأمل أن تنتهي، لأجل امرأة أديبة لبنانية عربية، أتقنت لغات سبع، وعزفت البيانو، وروت وترجمت، وكتبت المقالة، ونظمت الشعر، وعقدت أول صالون أدبي عربي معروف، حتى فتحت الباب أمام عصر كامل من التنوير ونهضة المفاهيم الاجتماعية في التعامل مع المرأة العربية، ما أكّد أنه من المؤسف حقا أنّ مجاميع الثقافة الكوزموبوليتية، التي من المفترض أنّ الأعرج يمتاح منها، لم تؤثر في تشذيب حسّه الجمالي، في أن يستوصي خيراً بالنساء، فكيف بمَي، ولم تنهه عن التفكير الشرقي الذكوري تجاه امرأة من الطبيعي أن تعشق وتحبّ، فإذا ما قالت يوما: «أتمنى أن يأتي بعدي من ينصفني» فنحن نعتقد أنها تبحث عمّن ينصفها في لبنان الجميل حصرا، ولا نعتقد حتماً، أقلّه كلبنانيين، أنّ تلك مهمة رجُل من فجّ الوطن الجزائري الذي نجلُّه طبعا، تجاهل طبيعة المناسبة التي قيل فيها هذا الكلام. ومع علمنا وفهمنا جيداً أنه لا يمكن للأعرج نفسه تناول حياة امرأة جزائرية حقيقية بالاسم الثلاثي الكامل والفعل والصفة بهذا الاسلوب، وليس بالإشارة، لا في رواية ولا اثنتين ولا عشرة، مؤمنِين بأنّ كثيرات من النساء الجزائريات يستحققن أن يَكتب فيهن ابنُ وطنهنّ مهما أخفاه بين السطور في حديثه عنهن، وأنّ هذا طبعاً شأنه وشأنهن، فهل يمكنني أن أتناول، أنا اللبناني، امرأةً جزائرية بهذا الشكل؟
كاتب لبناني