طرابلس ـ «القدس العربي»: مشاكل اقتصادية متتالية تقع فيها ليبيا البلد الغني بالذهب الأسود، واحدة تلو الأخرى دون حلول منطقية تطرح من قبل السلطات التنفيذية المسؤولة. فوسط سوء الأوضاع المعيشية، دخلت الدولة إلى ركود اقتصادي لم تعرف له أسباب، وكان سببا في إقفال مصادر رزق عدد من الأشخاص.
وتعتبر ليبيا دولة ذات اقتصاد ريعي حيث تعتمد على النفط فقط كمصدر دخل واحد للخزانة العامة للدولة ولكافة نفقاتها التي تزايدت وبشكل كبير خلال الفترة الماضية عقب زيادة مرتبات عدد من موظفي الجهات العامة التابعة للدولة مع التكدس الوظيفي.
ويعاني الاقتصاد الليبي من ظاهرة التضخم منذ سنوات طويلة، حيث ارتفعت معدلات التضخم مع معدلات عالية من البطالة في ظل نمو اقتصادي متذبذب بحدة بين انتعاش قوي وركود حاد، وتتفاوت معدلات التضخم عادة حسب عدة متغيرات ومنها التضخم الركودي والناتج المحلي الإجمالي والإنفاق الحكومي وسعر الصرف وعرض النقود الواسع وأسعار النفط العالمية والأزمات السياسية التي شهدها الاقتصاد الليبي.
ويُعرف الركود الاقتصادي، بأنه نمو سلبي في الناتج المحلي الإجمالي لأي بلد خلال ربعين متتاليين أي مدة 6 شهور.
وتشير توقعات صندوق النقد الدولي الأخيرة لهذا العام لتراجع النمو في العديد من الاقتصادات وأن خطر الركود الاقتصادي يهدد العالم بشكل خاص خلال العام المقبل.
وقال صندوق النقد في تقرير له إن خطر الركود سيكون أكثر صرامة في 2023 عن هذا العام مع التوقعات بتراجع النمو في العديد من الاقتصادات، وانخفاض مدخرات الأسر المعيشية، ما قد يتسبب في توقف الاقتصادات. كما توقع الصندوق استمرار ارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم في ليبيا خلال العام 2022 ليصل إلى 3.7 بالمئة وذلك وفق تقرير نقلته وكالة الأنباء الليبية الرسمية في طرابلس.
وخلال الأشهر الماضية صدرت العديد من التقارير حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ومنطقة اليورو والاقتصادات العالمية تتجه نحو حالة من الركود وأوضحت عدد من التقارير الدولية أن الاقتصاد العالمي يواجه رياحا معاكسة كبيرة ويشهد تباطؤاً حاداً في عام 2022.
وفي ليبيا تصاعد الجدل حول سبب ضعف القوة الشرائية وحالة الكساد التي يمر بها السوق الليبي على اختلاف وتوسع تخصصاته، حيث أرجع بعض الخبراء ذلك إلى الركود بينما ربط آخرون ذلك بالتضخم.
ركود تضخمي
وانتقد خبير اقتصادي ليبي ما يردده بعض رجال الأعمال عن وجود ركود تضخمي يقف وراء بطء الحركة التجارية وتكدس السلع نتيجة لانصراف المستهلكين عن الشراء وخصوصًا السلع الكمالية، موضحا إن التضخم وليس الركود هو سبب ضعف القوة الشرائية للمستهلكين في ليبيا.
وقال الخبير الاقتصادي د.محمد أحمد إن التضخم وليس الركود هو سبب ضعف القوة الشرائية للمستهلكين في ليبيا، موضحًا أن الاقتصاد الليبي هو جزء من الاقتصادات النفطية وهذه في الحقيقة لم تدخل مرحلة الركود، فارتفاع أسعار النفط يعني ببساطة أن اقتصادات هذه الدول تنمو بشكل كبير، وذلك في تدوينة له على فيسبوك.
وتابع أحمد أن ما يؤثر في القوة الشرائية هو استفحال التضخم أو ارتفاعه بوتيرة أكبر من نمو الاقتصاد، وهذا ما يحدث في الاقتصاد الليبي. وإذا ما أراد رجال الأعمال أن يسمعوا للاقتصاديين فإنهم حذروا أكثر من مرة بعدم التسرع، وانتهاج سياسة تخفيض سعر صرف الدينار الليبي.
وتصاعدت المطالبات بضرورة تعديل سعر الصرف مجددا لتحريك السوق الليبية إلا أن ما زاد هذا الأمر صعوبة هو تزايد المصروفات الحكومية ورفع بند المرتبات، مع خطر يهدد إنتاج النفط الليبي الذي يتعرض فترة بعد أخرى لإغلاقات قسرية، أي ان تعديل سعر الصرف سيقلص الايرادات بالعملة الليبية من النفط.
حيث قال عضو لجنة تعديل الصرف مصباح العكاري إن دور المصارف في هذه الأزمة مهم جدا حيث أن أحد الحلول في حالة الركود الاقتصاد هو ضخ الأموال في شرايين الاقتصاد لكي تخلق فرص عمل وتتحسن القدرة الشرائية للمواطنين.
وتابع عضو اللجنة «لكن حال المصارف اليوم يعلم به الله فهي تعاني من مشكلة انقسام البنك المركزي ووجود حسابات لها في البنك المركزي طرابلس وحسابات أخرى في البنك المركزي في بنغازي».
وتابع «لهذا يجب حل هذه المشكلة بدون أي تردد، وبعد هذه الخطوة مباشرة اجتماع عاجل للمصرف المركزي من أجل إعادة النظر في تعديل سعر الصرف على الأقل بنسبة 15في المئة» موضحا أن المصارف تعاني من أزمة أخرى وهي مشكلة المحفظة الائتمانية والتي بها ديون كبيرة تصل إلى 9 مليار دينار ليبي.
وأفاد أن هذا المبلغ ديون تخص شركات حكومية وبضمان حكومي وهذه القروض قد مر عليها زمن طويل في ظروف كانت الدولة تعاني فيها من عجز الميزانية.
فوائض مالية
وبين العكاري أنه بعد تعديل سعر الصرف أصبحنا نشاهد فوائض مالية تحققها الدولة وخير دليل على ذلك بيانات الشهر الماضي التي أوضح فيها البنك المركزي وجود فائض مالي بقيمة 30 مليار دينار وكذلك فائض السنة الماضية والذي كان في حدود 20 مليار دينار.
وقال عضو اللجنة «هنا نتساءل هل تفكر الحكومة فعلا في حل مشكلة الركود الاقتصادي من خلال تشجيع القطاع الخاص والمصارف في الدخول في مشاريع ضخمة تخلق وظائف بعيدة على الموازنة العامة والإنفاق الاستهلاكي؟».
وتابع «نأمل من الحكومة أن تقوم بسداد هذه القروض للمصارف من هذه الفوائض حتى تتمكن المصارف من حل الكثير من مشاكلها والدخول مباشرة في ضخ أموال قد تتجاوز هذا المبلغ في مشاريع ذات طابع تنموي يساهم في حلحلة الكثير من المشاكل».
سعر صرف الدولار
الخبير الاقتصادي والرئيس السابق للهيئة الليبية للاستثمار، محسن دريجة، حذر في أيلول/سبتمبر من العام الماضي من حدوث ركود اقتصادي أكبر مع نهاية العام 2021 إذا لم يُخفّض سعر صرف الدولار، مشيرًا إلى ضرورة خفض سعر صرف العملة الأمريكية.
وفي تصريح جديد علق الأخير على الركود الاقتصادي قائلا إن سياسة سعر الصرف في ليبيا ليست مرتبطة كلياً بارتفاع وانخفاض أسعار النفط على المدى القصير. موضحا أن أمام مصرف ليبيا المركزي التزامات في شكل مرتبات ودعم ومصاريف تسييرية عليه تغطيتها، وهي نمت من حوالي 36 مليار دينار سنوياً لكل ليبي إلى أكثر من 80 مليار بسبب زيادة المرتبات بالدرجة الأولى، يليه أثر تعديل سعر الصرف الذي ينعكس في زيادة قيمة دعم المحروقات بالدينار الليبي، وتكلفة كل البنود التي تتطلب تغطية بالنقد الأجنبي.
وتابع دريجة أن مصرف ليبيا المركزي يواجه زيادة في الطلب على العملة حيث بلغت خلال الستة أشهر الأولى 14 مليار دولار مع أن إنفاق الحكومة لم يتجاوز 37 مليار دينار. وذلك لأن هناك كمية كبيرة من الدينار الليبي لم تنخفض بالقدر المطلوب لتعديل سعر الصرف نتيجة زيادة إنفاق الحكومة العام الماضي. مضيفا أن مصرف ليبيا المركزي يرى أنه يحتاج إلى ما لا يقل عن 18 مليار دولار لتغطية المصروفات الأساسية عند سعر الصرف الحالي.
وأشار دريجة إلى أن المقترح المقدم من لجنة الخبراء الاقتصاديين الليبيين المنبثقة عن مؤتمر برلين كان هو توحيد سعر الصرف وتخفيضه تدريجياً على مدار سنة ونصف، ليكون في حدود ربما 3 دينار للدولار. ولكن ما حدث هو استخدام الدخل المرتفع نتيجة ارتفاع سعر الصرف لتمويل زيادة الميزانية، ونتيجة هذا هو إلغاء عملية تخفيض كمية الدينار الليبي بالقدر المطلوب سواء في شكل نقود أو أرصدة حسابات.
ويرى دريجة أن رفع المرتبات وإن كان إجراء مقبولا شعبياً إلا أنه في فترة وجيزة – ولأنه أبقى على سعر النقد الأجنبي مرتفعا وزاد من كمية الدينار الليبي الذي يلاحق كمية محدودة من الدولار- أدى في واقع الأمر إلى انخفاض متوسط القوة الشرائية للمواطن بمقدار النصف على الأقل. وأردف دريجة ان تخفيض سعر الصرف هو الطريقة الأفضل لحماية القوة الشرائية للمواطن ومواجهة زيادة أسعار البضائع الموردة إلى ليبيا بالنقد الأجنبي التي أيضاً انعكست في زيادة السلع المحلية. ونتيجة طبيعية لانخفاض القوة الشرائية للمواطن انخفض الطلب على السلع الموردة والمنتجة محلياً خاتما حديثه بأن السياسات الاقتصادية الخاطئة آثارها عميقة وعلاجها صعب.
التوسع في الانفاق
ورغم المطالبات من قبل الاقتصاديين بضرورة تعديل سعر الصرف إلا أن الحكومة لم تستطع الاستجابة لهذه المطالب وذلك بسبب سياسة الصرف المتبعة والتي بنيت على أساس التوسع في الانفاق من خلال المنح والمرتبات والقروض والدعم.
حتى ان قضية الركود وتعديل سعر الصرف دخلت في الجدالات بين الحكومتين المعينة من قبل ملتقى الحوار السياسي الليبي والمعينة من قبل البرلمان. فقد نفى الدبيبة صحة الحديث عن وجود ركود اقتصادي، مشيراً إلى زيادة نسب الاستيراد.
وأضاف في اجتماع مع عدد من رجال الأعمال باتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة، أن فتح الاعتمادات بات الآن أكثر من السنة الماضية، وهذا يعني استهلاك وقدوم بضاعة من الخارج، أما الحديث عن الركود فيعني أنك إما لديك مشكلة تسويقية كشركة أو بسبب وجود منافس آخر وهناك تجارة أخرى بديلة (التجارة الإلكترونية) استحوذت على الأموال.
وتابع أن البيع لم يعد مقتصراً على المحلات أو الطريقة المباشرة فقط، فالتجارة الإلكترونية محايدة، وتأتي إلى حد المنزل من دبي وألمانيا وإيطاليا وتركيا وغيرها.
وفيما يخص دعم القطاع الخاص، أكد الدبيبة أن الدولة مستعدة لتقديم إعفاء كامل من الضرائب الخاصة بالعمالة لشركات القطاع الخاص، بشرط اتباع الإجراءات الصحيحة وتوفير السلع للمواطنين بسعر في المتناول.
وأوضح أن الدولة لا تريد أموالاً من القطاع الخاص أو ضرائب، وتسعى إلى تقديم تسهيل، قائلا «ليس لدينا مشكلة في تقديم إعفاء كامل، بشرط تعيين العامل برقمه الوطني ودفع حقوقه وضماناته وتأمينه الصحي».
إلا أن باشاغا رئيس الحكومة المعينة من البرلمان قد تحدث عن الركود في كلمة مسجلة متسائلا لماذا يحدث ذلك مع أن ليبيا دولة غنية؟ ولماذا لم تشكل لجنة وطنية لمعرفة أسباب الركود ومعالجته، فيما تحول الأموال لدول بعينها، ما يسبب الركود وقد يسبب كارثة ويزيد من عدد الفقراء؟
وفيما تحدث باشاغا عن ضرورة سماع آراء الخبراء لتعزيز الدينار أمام الدولار، وتحسين سعر الصرف، قال الدبيبة إن قرار تعديل سعر الصرف الذي اتخذ في بدايات العام 2021 كان صعباً لكنه كان في الاتجاه الصحيح، إذ منع نسبة كبيرة من السرقة التي كانت تحدث في الدولة، مشيراً إلى أن 10 في المئة من المواطنين كانوا يحصلون على الاعتماد بجنيه ونصف، والباقي يحصل عليها بـ10 جنيهات.
فيما قال باشاغا: أن هناك صوتا واحدا يستولي على مصرف ليبيا المركزي ويقول إنه ليس هناك إمكانية لتحسين سعر الصرف، والمفترض هو سماع آراء الخبراء من كل الجامعات الليبية ويقولون لنا هذا الكلام، أو يقولون هناك إمكانية للتعديل وتعزيز الدينار.
وحمل باشاغا حكومة الدبيبة مسؤولية سوء الأوضاع، قائلا «الآن كان يفترض أن يكون في هذا الوقت حكومة منتخبة ورئيس حكومة وبرلمان جديد، لكن الحكومة منتهية الولاية عرقلت كل ذلك وفشلت في إدارة ليبيا وتريد السيطرة على الحكم بمساعدة بعض الدول التي لديها منفعة في ليبيا» موضحا أن الوضع سيئ جداً مع ارتفاع درجات الحرارة وغياب الكهرباء وغلاء المعيشة كما أن الأمن الغذائي مهدد والرواتب لا تصل.
وفي ظل الصراع بين الحكومتين والانقسام بين ليبيا شرقا وغربا تتصاعد المخاوف من تأزم الأوضاع تدريجيا وسط عجز المجتمع الدولي عن إيجاد حلول وطرح مبادرات جديدة ويبقى المواطن الليبي هو المتضرر الأول من كل هذه السياسات والتخبط في القرارات .