أخذ الصراع بين حكومة الوحدة الوطنية وحكومة باشاغا انعطافا خطرا، مع تحريض كل طرف القيادات الأمنية على مناصرته.
وسط انشغال العالم باللهيب المُستعر في أوكرانيا، تسارعت الأحداث في ليبيا، ففرض مجلس النواب حكومة موازية برئاسة فتحي باشاغا، عادت بالبلد إلى مربع المنافسة بين حكومتي فائز السراج المعترف بها من الأمم المتحدة وعبد الله الثني، قبل 2018. واتسمت أجواء تشكيل الحكومة الجديدة بتوترات أبرزها إعلان المرشح لوزارة الاقتصاد والتجارة جمال سالم محمد شعبان، استقالته من منصبه. وينبغي التوقف هنا عند أسباب هذا الموقف المُحرج لباشاغا، إذ عزا شعبان حسب ما أوردت بوابة «الوسط» الليبية، استقالته من منصبه إلى «أن جلسة مجلس النواب الأخيرة لم تتسم بالشفافية ولم تراع القواعد الإجرائية ولم تتم بالتنسيق مع المجلس الأعلى للدولة (الغرفة الثانية). كما أعلن باشاغا أن أربعة وزراء من حكومته تم احتجازهم لمنعهم من السفر إلى طبرق، للمشاركة في جلسة أداء القسم، قبل إطلاقهم. وتسارعت في الوقت نفسه ردود الفعل المنتقدة لخيارات الحكومة الجديدة، وبخاصة إعادة إنشاء وزارة الإعلام، التي لعبت دورا قمعيا وتضليليا في عهد النظام السابق».
في ظل هذه المناكفات بين الطرفين أخذ الصراع بين حكومة الوحدة الوطنية وحكومة باشاغا انعطافا خطرا، مع تحريض كل طرف القيادات الأمنية على مناصرته، فقد طلب رئيس الحكومة الجديدة من الأجهزة والإدارات الأمنية أن ترفض الاعتداد بأية قرارات أو تعليمات صادرة عن حكومة الوحدة الوطنية. وتوجه باشاغا في هذا الإطار بكتاب إلى كل من مدير مديرية أمن طرابلس وجهاز الردع لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والإدارة العامة للعمليات الأمنية والإدارة العامة للدعم المركزي والإدارة العامة لحماية البعثات الدبلوماسية وقوة العمليات الخاصة، وهي الأجهزة الوازنة في العاصمة والمنطقة الغربية. وعندما يطلب باشاغا من تلك الأجهزة الأمنية حماية مقار الوزارات والمنشآت الحيوية للدولة ورفع حالة التأهب ومنع أية خروق تمس من أمن العاصمة وسلامة المدنيين، فإنك لا تستطيع أن تتفادى احتكاكات بين الطرفين قد تنزلق إلى مواجهات تُذكر بالاقتتال الذي جرى قبل وقف إطلاق النار في 2020.
أكثر من ذلك اعتُبر تشكيل الحكومة نفسه محاولة لتأجيل الحلول السياسية ووضع الأقدام على شفا منزلق العنف والاحتراب. كما أن تسمية حكومة جديدة مؤلفة من ثلاثة نواب للرئيس وثلاثين وزيرا، يُعدُ إجراء لا يتناسب مع الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر به البلاد. وفي السنوات الخمس أو الست الأخيرة تشكلت أربع حكومات (السراج، الثني، الدبيبة، باشاغا) تجاوز عدد وزرائها مئة وزير، بالإضافة لما يُعطى لهم من حوافز ونفقات خاصة تُثقل كاهل الدولة.
وكان لافتا أن جواب أحد المشاركين في استفتاء أجراه موقع «أخبار ليبيا 24» اعتبر أن باشاغا لن يتمكن من تسلم السلطة لأن حكومته تعني، بالنسبة لطيف كبير من الليبيين التمديد للبرلمان، «وهو ما ترفضه أغلبية الليبيين الآن» على ما قال. وبالتالي فإن باشاغا دخل في معركة خاسرة فقد فيها الكثير من شعبيته في المنطقة الغربية.
لكن المتوقع هو أن يُظهر باشاغا أعلى درجات المرونة في الحوار مع الأمم المتحدة والدول المتداخلة في الصراع الليبي، من أجل القبول به شريكا في الحل. وصرح السفير الأمريكي وموفد الولايات المتحدة الخاص إلى ليبيا ريتشارد نورلاند في هذا الإطار قائلا «وضعنا استراتيجيا مع باشاغا لتوحيد الجماعات المسلحة في غرب ليبيا لكنها تجمدت» من دون إعطاء تفاصيل. أما عن الموقف الروسي فبالرغم من الغموض الذي يلف هذا الموضوع يمكن القول إن موقف موسكو من أطراف الصراع في ليبيا أكثر وضوحا، إذ أن روسيا تؤيد باشاغا، الذي نسجت معه علاقات خاصة، بالرغم من موقفه المعارض لغزو أوكرانيا.
أمريكيا يمكن القول إن حكومة الدبيبة ورثت أيضا عن حكومة فائز السراج اتفاقا حضر حفلة التوقيع عليه في 22 حزيران/يونيو 2020 كل من السفير نورلاند وقائد القيادة الأمريكية لأفريقيا «أفريكوم» الجنرال ستيفين تاونسند، والسراج، بالإضافة لباشاغا بوصفه آنذاك وزيرا للداخلية. بالمقابل يُرجح أن الدبيبة ماض في الإعداد لإجراء الانتخابات في نهاية حزيران/يونيو المقبل «مهما كانت التحديات والظروف» مقترحا اعتماد 30 حزيران/يونيو المقبل موعدا لإجراء الانتخابات البرلمانية. وحول إحدى المسائل الجوهرية المُتصلة بالانتخابات المقبلة، وهي حل الأجسام المسلحة، يعتبر الدبيبة أن الأمر لا ينحصر بالجيش الوطني الليبي، الذي يقوده اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وإنما أيضا بإدماج الأجسام المسلحة في وزارة دفاع، مع إيجاد هيكلية لشرطة وجيش وطنيين. وقد صاغ الدبيبة هذه الخطط في رسالة وجهها إلى بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، شارحا خطته للمرحلة المقبلة، ما يجعل منه مُحاورا ذا مصداقية لدى اللاعبين الكبار في الملعب الليبي.
لذا حرصت موسكو طيلة الفترة الماضية على المحافظة على علاقات الود مع حكومتي فائز السراج وعبد الحميد الدبيبة في آن معا، إلى جانب روابطها المتينة مع غريمهما اللواء المتقاعد حفتر. وأمضى الروس سنوات 2017 و2018 في بناء قوة عسكرية ضاربة في ليبيا، بدعم روسي وتمويل إماراتي، تمهيدا للزحف على طرابلس الذي انطلق في الرابع من نيسان/ابريل 2019 ولم يحقق أهدافه. إلا أن الاعتماد على الدعم الروسي، بما فيه الاستنجاد بعناصر من الشركة الأمنية الروسية الخاصة «فاغنر» وهي أحد أذرع وزارة الدفاع الروسية، غير موازين القوى حتى باتت العاصمة طرابلس على مشارف السقوط في أيدي قوات حفتر.
وبمناسبة الزيارة الرسمية التي أداها رئيس الحكومة الليبية الدبيبة إلى موسكو، تحدث رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين، بالتفصيل حول قضايا التعاون الثنائي مع ليبيا «التي تتطلب اهتماما مشتركا» كما قال. والأرجح أن روسيا ستستثمر هذه العلاقة الخاصة بعد انتهاء القتال لمجابهة النفقات المختلفة التي اقتضتها كلفة الحرب. كما أنها ستتوجه في الدرجة الأولى إلى الدول «الصديقة» وفي مقدمها الجزائر وليبيا وفنزويلا، لمساعدتها على النهوض من جديد. وفي السياق يُرجح خبراء أن موسكو ستستفيد من الحرب للقضاء بقوة أكبر على ما تبقى من «الربيع العربي» بذريعة مطاردة الجماعات الاسلامية المتشددة.
وفي المجال الاقتصادي تُفيد إحصاءات جديدة أن حركة التجارة والتعاون الاقتصادي مع ليبيا تراجعت بسبب وباء «كوفيد-19» بأكثر من 120 مليون دولار قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا. وأكد رئيس الوزراء الروسي ميشوستين آنذاك أن الحكومة الروسية ستعمل على إيجاد الظروف المواتية لعودة الاستثمار الروسي إلى ليبيا. واعتبر أن هناك فرصا للاستثمار في قطاع الطاقة والصناعة والبنية التحتية والنقل بليبيا. لكن من أهم أهداف الروس تجديد صفقات السلاح التي كانوا أبرموها في عهد معمر القذافي (2008 و2010). إلا أن الحريق الذي قدح شرارته فلاديمير بوتين لن يسمح بتنفيذ تلك الوعود في المدى المنظور، لأن سلم الأولويات الروسية تغير تماما. كما أن التهديد بإنزال عقوبات بالمتعاملين مع الحكومة الروسية، سيجعل الحكومات ومنها الحكومة الليبية، تتريث في تعاملها مع موسكو.
بيد أن الثابت أن الروس سيعودون إلى هذه الملفات ما أن تضع الحرب أوزارها، لأنهم سيكونون بأمس الحاجة إلى تنشيط العلاقات التجارية مع شركائهم. أما الأمم المتحدة فمازالت متشبثة بالحل السلمي للصراع في ليبيا، مُعتبرة أن المهم هو المحافظة على الوحدة والاستقرار «اللذين تحققا بشق الأنفس» بحسب العبارة التي استخدمتها المستشارة الخاصة للأمين العام بشأن ليبيا، ستيفاني ويليامز. لذلك تبني هذه الأخيرة اتصالاتها المستمرة مع أطراف الصراع على اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في تشرين الأول/أكتوبر 2020 بعد 18 شهرا من المعارك بين قوات حفتر وقوات حكومة الوفاق. وتعمل الأمم المتحدة على أن تصب كل الجهود في انتخابات ذات مصداقية وشفافة وشاملة على أساس إطار دستوري وقانوني سليم. والظاهر أن ويليامز لم تسأم من رفع الحجر إلى قمة الجبل قبل أن يتهاوى إلى الأرض، ولم تضجر من إعادة الكرة مرات ومرات. وتجسيدا لهذا الإصرار تعتزم دعوة لجنة مشتركة من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة «في أقرب وقت ممكن» للاجتماع من أجل وضع أساس دستوري توافقي من شأنه أن يؤدي إلى انتخابات وطنية في القريب العاجل. ويُعتبر هذا الموقف الأكثر واقعية ونجاعة، لأنه من دون توافق تجتمع عليه كافة الأطراف الوازنة بلا إقصاء أو تهميش، لا يمكن لأي حل سياسي أن يُبصر النور وأن يحظى بالتوافق اللازم لتنفيذه. أما على الصعيد العسكري فإن التطور الوحيد في ليبيا، بعد الحرب المشتعلة في أوكرانيا، تمثل في سحب مرتزقة «فاغنر» الروسية إلى قاعدة الجفرة الجوية، وسط البلاد، ومن جميع مواقعهم وغرف عملياتهم في مدينة سوكنة، ومن الطريق الرابط بين مدينتي ودان وسرت.
30 طائرة حربية
ولم تتسن معرفة وجهتهم النهائية أو الأسباب التي حملتهم على التحرك نحو قاعدة الجفرة، مصحوبين بكامل عتادهم وآلياتهم المسلحة، وبمنظومات الدفاع الجوي «بانتسير» التي تُلازمهم في كل تحركاتهم. ومن الفرضيات المتداولة أن سحب تلك القوات يرمي لجعلها جاهزة للعودة إلى روسيا، إذا ما اقتضت مآلات الحرب تعزيز الجيش بقوات من خارج الاتحاد الروسي. وتتألف كتائب «فاغنر» في ليبيا من 7000 مقاتل ولديهم 30 طائرة حربية جاهزة في مطار القرضابية القريب من مدينة سرت، وهو ما بوأ ليبيا، كما سوريا بدرجة أكبر، موقعا مهما في الاستراتيجيا العسكرية للكرملين في شرق المتوسط. أما الغربيون فلا يتعاملون مع ليبيا إلا من خلال ثلاثة أبعاد هي النفط والارهاب والهجرة مثلما يقول بيار رازو مدير الأبحاث في معهد البحث الاستراتيجي بالمدرسة العسكرية الفرنسية. ويقول رازو إن سيطرة هذه الكوابيس الثلاثة على الأوروبيين والأمريكيين جعلت نظرهم لهذه الملفات مشوشا، فلم يتوقعوا الأزمة الحادة التي تمرُ بها ليبيا حاليا.
إجمالا ستكون هناك تداعيات للحرب الأوكرانية على الدور الروسي في ليبيا مستقبلا، سلبا أو إيجابا، فإما أن تُجبر موسكو على سحب قوات «فاغنر» إلى سوريا أو روسيا، أو على العكس من ذلك ستتمدد ليس فقط في الأراضي الليبية وإنما أيضا في بلدان الجوار، وخاصة تلك التي لديها حاليا عناصر محدودة من «فاغنر». كما أن الدول الأوروبية، التي شكلت فريقا رباعيا مؤلفا من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا لمتابعة الملف الليبي، ليس لديها الوقت حاليا للاشتغال على الأزمة الليبية المعقدة. من هنا ستُركز الأضواء في الأيام المقبلة على صراع الشرعية بين عبد الحميد الدبيبة وباشاغا ومن وراء الأخير اللواء حفتر، الذي شارك اثنان من أبنائه في المفاوضات التي أسفرت عن تشكيل حكومة باشاغا.