طرابلس – «القدس العربي»: بوادر انقسام جديد بدأ في الظهور في جسم المؤسسة القضائية في ليبيا، الوحيدة التي بقيت موحدة رغم الظروف التي مرت بها البلاد، والوحيدة التي حاول المسؤولون عنها النأي بها عن أي صراع سياسي أو انقسام، إلا أن خلافاً بسيطاً قد أثار هذه الشعلة التي ربما لن تنطفئ.
ملامح الانقسام هذه بدأت بعد اعتماد مجلس النواب قرار هيئة رئاسته المتعلق بتعيين مستشارين بالمحكمة العليا، وإقراره في اليوم نفسه قانوناً يقضي بتعديل نظام المحكمة العليا، وجعل حلف اليمين لأعضائها أمام مجلس النواب أو هيئة رئاسته.
ونص القانون على تعديل الفقرة الثانية من المادة 8 من القانون 6 لسنة 1982 بإعادة تنظيم المحكمة العليا ليكون أداء اليمين من طرف أعضاء المحكمة، أمام مجلس النواب أو هيئة رئاسة المجلس، الأمر الذي تلاه ردة فعل قوية على تجاوزات مجلس النواب من الجمعية العمومية للمحكمة العليا، حيث قررت الجمعية وبالإجماع إعادة تفعيل الدائرة الدستورية المغلقة من عام 2016 لغرض النظر في الطعون المقدمة من مختلف الجهات والفصل فيها.
وتضمن القرار الذي ألقاه رئيس المحكمة العليا المستشار محمد الحافي، الخميس، أن المحكمة تعاهد الليبيين أنها لن تنحاز إلى أي طرف من الأطراف، وستعلي شأن الوطن والمبادئ والقواعد الدستورية المقررة.
وبارك رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة قرار الجمعية العمومية للمحكمة العليا بإعادة تفعيل الدائرة الدستورية، قائلاً: “لعلها تكون رادعاً للتجاوزات التي تمارس من الأطراف والقرارات المخالفة للاتفاق السياسي باعتباره الوثيقة الدستورية الحاكمة للمرحلة؛ استقلال القضاء ووجود دستور حاكم أساس لاستقرار البلاد”.
لكن مجلس النواب لم يتراجع عن قراراته التي مست استقلال القضاء، حتى تصاعد تأثير القرار إلى انقسام فعليّ من خلال انقسام مؤدي اليمين القانونية من مستشاري المحكمة العليا الجدد بين شرق ليبيا وغربها، فبينما أدى اليمين المُعيّنون من البرلمان أمام رئاسته في بنغازي، أقسم الآخرون المعينون من المحكمة العليا أمام جمعيتها العمومية بحضور رئيسها في طرابلس.
وهنأ رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، المستشارين الجدد في المحكمة العليا بعد أدائهم اليمين القانونية أمام هيئة رئاسة المجلس في بنغازي. وقال عقيلة في كلمته أثناء أداء المستشارين اليمين القانونية، إن القضاء في منزلة عالية، وإن رجاله لا يخشون أحداً ولا يطمعون في أحد، وهم من يقررون رواتبهم ومزاياهم وإدراجاتهم، وفق تعبيره.
كما رحب رئيس المحكمة العليا المستشار محمد الحافي، في كلمة له عقب مراسم اليمين القانونية في مقر الجمعية العمومية للمحكمة العليا بطرابلس، بالمستشارين بوصفهم أعضاء جدداً، واصفاً الحدث بالعرس القضائي.
وأرجع عدد من المتتبعين تفعيل الدائرة الدستورية وتوقيته على أنه رد فعل من قبل المحكمة العليا على تجاوزات مجلس النواب التي وصلت حد المس بالقضاء الليبي واستقلاليته.
وتختص الدائرة الدستورية في الفصل في القضايا والطعون ذات الجانب الدستوري والقانوني، والقضايا والخلافات حول القوانين والتشريعات والقرارات التي تصدر عن السلطتين، التنفيذية والتشريعية، وأيضاً أي مخالفة أو طعن في الإعلان الدستوري.
وفي عام 2014 حكمت الدائرة الدستورية بعدم دستورية بعض مواد الإعلان الدستوري الخاصة بانتخاب مجلس النواب نهاية 2014، الذي أعاد المؤتمر الوطني العام إلى الواجهة السياسية، فيما تمسك مجلس النواب بشرعية انتخابه.
وفي شباط / فبراير من العام الجاري، دعت الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور فى ليبيا الجمعية العمومية للمحكمة العليا فى البلاد إلى العدول عن قرارها الخاص بـ”وقف العمل بالدائرة الدستورية” بالمحكمة في “أقرب وقت ممكن”، معتبرة أن المعطيات التي دفعت إلى اتخاذ هذا القرار في حينه “لم تعد قائمة”.
وفي آذار/مارس الماضي، طالبت مؤسسات من المجتمع المدني، ونقابات، ومحامون، الجمعية العمومية للمحكمة العليا بتفعيل الدائرة الدستورية، مشددة في وقفة احتجاجية في طرابلس على ضرورة احترام وإنفاذ الحكم الصادر عن الدائرة الإدارية بمحكمة استئناف طرابلس، القاضي بإلغاء قرار تعطيل الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا.
وتعليقاً على هذا الجدل، قال نائب رئيس المجلس الوطني الانتقالي السابق، عبد الحفيظ غوقة، إن مجلس النواب يعبث بالدور التشريعي المناط به، وبدوافع لا تمت للمصلحة العامة التي يبتغيها أي تشريع.
وأضاف غوقة، في منشور عبر صفحته على فيسبوك، أن إصدار مجلس النواب القانون رقم 4 لسنة 2022 بتعديل قانون المحكمة العليا رقم 6 لسنة 1986، هو ما اعتبره تعديلاً الغرض منه تمرير قراره مثار الجدل بتعيين 45 عضواً بالمحكمة العليا، وهو ما رفضته السلطة القضائية، منتقداً دعوة المجلس لهؤلاء المستشارين لحلف اليمين القانونية أمامه شخصياً بدلاً من أن يكون حلفهم اليمين أمام الجمعية العمومية للمحكمة العليا طبقاً لقانون المحكمة.
وفي 17 آب/ أغسطس، رفض رئيس المحكمة العليا المستشار محمد الحافي، تعيين قائمة من 45 مستشاراً صادق عليها مجلس النواب في جلسة 16 أغسطس، بسبب المخالفات القانونية الواردة في القائمة، قائلًا: لن يقبل بتعيينهم ما لم يجر استبعاد من جرى تعيينهم بالمخالفة للقانون، مشيراً إلى أنه لن يعتدّ بأي إجراء مخالف للقانون للحفاظ على هيبة القضاء واستقلاله.
وقال إنه أرسل خمسة خطابات إلى رئيس مجلس النواب خلال عام، في 26 أيار/مايو 2021، و28 شباط / فبراير 2022، و14 نيسان / أبريل 2022، و24 نيسان/أبريل 2022، و23 مايو 2022، يقول فيها إن المحكمة لم تطلب أي تعديل لقانونها ولم تقم بإحالة أي خطاب رسمي لطلب تعيين مستشارين بالمحكمة.