يحلم الليبيون، بعد سنوات طويلة من الصراع بين الجهات التي نشأت بعد سقوط معمر القذافي، بحصول تغير مأمول كبير ناتج عن توافقات بين الأطراف الدولية والإقليمية تضغط على شبكة الأطراف السياسية والعسكرية المعقدة والمتشابكة المتنازعة، وتدفع نحو تسوية مقبولة تنتج عنها مؤسسات تشريعية تدرس وتنشئ وتقر القوانين وتحاسب الحكومة على أدائها، وسلطات تنفيذية توحد البلاد وتمسك بمقاليد الأمن والسلام الاجتماعي وتحافظ على الاستقرار بشكل يؤمن العودة لسكة التنمية والازدهار ويحفظ لليبيين كراماتهم وأملاكهم وحقوقهم.
غير أنه في كل مرة يرتفع فيها منسوب الأمل لدى الليبيين بحل عام تطرأ أحداث تدلل على أن طريق عودة ليبيا ومواطنيها لنظام طبيعي مدني يحتكم للديمقراطية ويُحاسب فيه الساسة على أفعالهم بقوة القانون ما زال طويلا، وأن أحوال البلاد، ومؤسساتها، ما تزال تسوء وتتراجع وتتفكك.
آخر هذه الأدلة كان اعتقال وزير المالية السابق فرج بومطاري في مطار معيتيقة واقتياده إلى مكان مجهول. ثم نشر تقارير عن أن خمسة من أعضاء المجلس الأعلى للدولة مُنعوا من السفر في المطار نفسه.
تدخلت قبيلة الوزير المعتقل، ازوية، فاعتبر أحد زعمائها ما حصل «مؤامرة» واتهم محافظ مصرف ليبيا المركزي (ويدعى الصديق الكبير)، بالمسؤولية عما حدث بالتعاون مع رئيس جهاز الأمن الداخلي، لطفي الحراري، ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، الذي تعود مسؤولية الجهاز إليه، وذلك على خلفية ترشيحه لمنصب محافظ مصرف ليبيا، وتحركت القبيلة فقطعت بعض أنابيب النفط والمياه، واعتبرت رئيس جهاز الأمن «مطلوبا»!
وصف خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة، ما حصل من منع لسفر أعضاء المجلس من السفر وحجز جوازاتهم «جريمة نكراء»، وخاطب النائب العام لفتح تحقيق بخصوص ما حصل، كما اتهم، بدوره، جهاز الأمن الداخلي، آنف الذكر، بالمسؤولية.
بيان بعثة الأمم المتحدة في ليبيا الصادر مؤخرا أدان بوضوح عمليات الخطف والاعتقال التعسفي والإخفاء القسري لمواطنين وشخصيات عامة «من قبل مختلف الجهات الأمنية» داعية «السلطات الليبية والتشكيلات الأمنية» للإفراج عن جميع المحتجزين تعسفيا، كما أنها أشارت إلى التوتر الناشب ضمن «المجتمعات المحلية والقبائل» وطالبتها بفتح الحقول النفطية التي أغلقتها في جنوب البلاد.
يأتي الحدث الأخير ليشير إلى أن التغوّل الذي اختصت قوات الجنرال خليفة حفتر بممارسته ضد الشخصيات العامة والأفراد على مدى سنوات، في شرق وجنوب ليبيا، صار أشبه بـ»تقليد عام» تمارسه بعض الأجهزة الأمنية ضمن الجغرافيا التي تسيطر عليها حكومة الوفاق الوطني.
تلقى حفتر، منذ نشوء حركته، دعما دوليا وإقليميا كبيرا، وقام عام 2019 بإعلان «المعركة الحاسمة» للسيطرة على طرابلس والتي شارك فيها، للمناسبة، قرابة 1000 من قوات فاغنر الروسية، ولكن حكومة الوفاق الوطني، التي كان يقودها فايز السراج، نجحت في حزيران /يونيو 2020 في استعادة المناطق التي احتلها، وبينها مطار معيتيقة الدولي المذكور.
تغيرت استراتيجية حفتر والقوى الداعمة له للسيطرة على طرابلس عبر ضم وزير داخلية حكومة الوفاق السابق فتحي باشاغا، الذي تم تعيينه رئيسا للحكومة المناظرة، ورغم فشل باشاغا، و»صرفه من الخدمة» لاحقا عبر تعيين مجلس النواب الذي يسيطر عليه (انتخب أعضاؤه عام 2014) رئيسا آخر للحكومة المذكورة، فقد ألحق هجوم ميليشيات موالية له على طرابلس صدعا جديدا في معسكر حكومة طرابلس التي تعترف بها الأمم المتحدة.
رغم الضغوط الدولية التي تعرض لها معسكر حفتر، بخصوص إخراج مقاتلي فاغنر، فقد حافظ على إمساكه بزمام السلطات، على أشكالها، في منطقته، ولم تؤد الخلافات داخل مجلس النواب، وتهديد قرابة 40 منهم بالانتقال إلى طرابلس، إلى تغيير يذكر ورغم الغموض الذي يحيط التوافقات التي تنتجها الاجتماعات العديدة في المغرب وغيرها، فإن الأغلب أن تؤدي إلى السماح بترشح حفتر للرئاسة، بالشروط التي تناسبه (عدم التخلي عن الجنسية الأمريكية رغم أنه محكوم من محاكمها).
ما نشهده في ليبيا عمليا، هو ابتلاع الميليشيا للدولة، وهو ما حصل سابقا في اليمن، وجار النزاع عليه في السودان، لكن التشابهات تتوقف عند هذا الحد، ويبقى المجال مفتوحا لحسم الصراع.