طرابلس – «القدس العربي»: شباب في مقتبل العمر وشياب، بعضهم احتج لسوء الأوضاع الميعيشية وآخرون لا تهم وجهت لهم، بل قبضت عليهم القوات عنوة أثناء تأديتهم لصلاة الفجر في المسجد، ومع بساطة التهم لم يكونوا على علم بأنهم لن يروا النور بعد السجن، وأنها ستكون آخر محطة لهم في هذه الحياة .
القصة من البداية..
في 29 من حزيران/ يونيو استيقظت العاصمة الليبية طرابلس على أخبار دامية، تفيد بمقتل 1300 معتقل بشكل جماعي في سجن أبوسليم، أحد أسوأ سجون القذافي والتي شهدت على جرائمه، وانتهاكاته لحقوق الإنسان، مشهد كان صادماً لأسر ليبية عديدة، فقدت أباً، وأخاً، وزوجاً بين ليلة وضحاها.
أنصار القذافي وصفوا المعتقلين حينها بالمتمردين رغم أن بعضهم كان على مرتبة عالية من العلم وصاحب مكانة مرموقة على المستوى الأكاديمي والمهني، كما وصف المعتقلون بأنهم ينتمون لتيار إسلامي، رغم أن الإسلام دين الليبيين جميعاً . تضاربت الروايات حول أسباب ارتكاب مجزرة مروعة كهذه، فأنصار القذافي أرجعوها لتمرد المساجين وتنظيمهم لاعتصام على حد قولهم محتجين على سوء أوضاع الاعتقال، ورغم أن هذه الرواية لم تعتبر مبرراً كافياً، ولكن روايات أخرى كانت تؤكد عزم القذافي على التخلص منهم .
يقع سجن أبوسليم في ضاحية شعبية من ضواحي المنطقة الواقعة جنوبي غرب العاصمة طرابلس، وقد افتتح عام 1984 ليحل محل السجن القديم الذي كان يسمى “الحصان الأسود”، وهو عبارة عن معسكر للشرطة العسكرية يشغل مساحة 30 هكتاراً، وتقدر مساحة الزنزانة الواحدة فيه بـ36 متراً مربعاً.
السجن كان مخصصاً للعسكريين في البداية، ومع ازدياد ظلم وقبضة نظام القذافي حول إلى سجن لسجناء الرأي والسياسيين، وخضع لإشراف الأمن الداخلي في مخالفة صريحة للقانون الذي نص على وجوب إشراف وزارة العدل على السجون.
الروايات حول مجزرة أبوسليم تؤكد إعدام 1275 سجيناً بشكل جماعي رمياً بالرصاص في باحة السجن، بعد اعتصامهم وسجنهم لأحد عمال السجن، احتجاجاً على منع إدارة السجن للزيارات العائلية، ولظروف المعيشة الصعبة. دفن الضحايا في أماكن مختلفة بعضهم احتضنتهم ساحة السجن، والآخرون دفنوا في مواقع مختلفة من العاصمة طرابلس في مقابر جماعية، تؤكد لنا أن ما حدث في ترهونة ومن كان مسؤولاً عليه هو خليفة لمن كان مسؤولاً على أحداث أبوسليم.
أساليب بشعة اتخذها نظام القذافي للتخلص من الجثث، ومن بين هذه الأساليب قيام المشرفين على عملية القتل الجماعي بوضع الجثث في حفرة كبيرة داخل باحة السجن يوم الحادثة، وقد طلبوا من سائق شاحنة المرور فوق الجثث لعدة مرات حتى تستوعب الحفرة أكبر عدد منها.
منظمات حقوق الإنسان..
وقالت منظمة “التضامن لحقوق الإنسان”، في بيان أصدرته عام 2004، والتي تبنت طرح القضية أمام اللجنة المعنية بحقوق الإنسان التابعة للمفوضية العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة “إنهم مواطنون ليبيون كانوا معتقلين خلال 1984-2003 داخل سجن أبوسليم؛ والمذبحة أعقبت احتجاجاً وقع في السجن عند الساعة الثانية من ذلك اليوم أمكن احتواؤه وإعادة الأمور إلى نصابها”. وتابعت المنظمة مستندة إلى شهود عيان: “إنه بعد تسع ساعات (أي حوالي الساعة الحادية عشرة قبل ظهر نفس اليوم) بدأت المذبحة باستخدام أسلحة فتاكة، ومن النزلاء من أُحضِر من عنابر أخرى وضمَّ إلى المجموعات التي تم قتلها. وتضيف المنظمة أنه لم يتمكن سجين واحد من الهرب ولم يقع أي استيلاء على أي قطعة سلاح”. في المُقابل، رفض نظام القذافي مزاعم مجزرة في أبوسليم، وبحلول أيار/مايو 2005 قالَ رئيس جهاز الأمن الداخلي لمنظمة هيومن رايتس ووتش إن السجناء أسَروا بعض الحراس وسرقوا أسلحةً من مخبأ السجن، مؤكداً على “وفاةِ” عددٍ منَ السجناء والحراس على حدٍ سواء وذلك عندما حاول رجال الأمن استعادة النظام كما ادعى أنّ الحكومة قد فتحت تحقيقاً في الموضوع بأمرٍ من وزير العدل، كما أكّدَ المسؤول الليبي أن أكثر من 400 سجين قد هربوا من أبوسليم في أربعة حوادث منفصلة قبل وقوع الحادث وبعده
القضية تعود..
وقد عادت هذه القضية إلى المشهد الليبي الأحد، بعد أن أصدرت المحكمة العليا حكم نقض في قضية سابقة، رفعت لإسقاط الجريمة على كافة المتهمين. فقد نقضت الدائرة الجنائية الثانية في المحكمة العليا الحكم الصادر عن الدائرة الجنائية التاسعة في محكمة استئناف طرابلس بخصوص قضية مذبحة سجن أبوسليم القاضي بسقوط الجريمة على جميع المتهمين وتعيد القضية للنظر فيها من قبل دائرة جنائية أخرى. ففي كانون الأول/ ديسمبر، وتحديداً في عام 2019 حكمت الدائرة التاسعة في محكمة الاستئناف في طرابلس بإسقاط التهم عن المتهمين في قضية مجزرة سجن أبوسليم من دون أن تحدد عدد المتهمين في القضية، كما أشارت المحكمة في حكمها إلى أنها أسقطت التهمة عن خمسة لوفاتهم واثنين منهم غيابياً والباقين وجاهياً لانقضاء المدة. ورغم مطالبات أهالي الضحايا المستمرة لم يصدر حكم واحد على أي متهم من المتهمين في هذه القضية، مع وجود الشهود والدلائل والبراهين، وتبقى عودة القضية إلى المشهد ناقوس أمل ينعش المتضررين والمظلومين .