تخفي السُلطات الإسرائيلية الخسائر العسكرية التي يمنى بها جيش الاحتلال خلال معاركه في قطاع غزة، كذلك في الشمال على الجبهة اللبنانية، وفي مواجهات الضفة الغربية، ولهذا يعزو الكثير من خسائره البشرية إلى نيران صديقة، أو إلى أخطاء تقنية وفنية وغيرها، إلا إذا أثبتت المقاومة غير ذلك، من خلال توثيقها للعمليات، وذلك كي لا يعترف بقدرات المقاومة واستعداد أفرادها للتضحية والإقدام غير المسبوق في تاريخ الحروب، حفظاً للمعنويات في الجبهة الداخلية أولا، وكي لا تزداد الأصوات المؤيدة لصفقة ووقف الحرب، كذلك كي يوهم الآخر «العدو»، بأن سلاحه غير فعال، وأن السوبرمان الإسرائيلي لا يُقتل إلا بخطأ منه هو نفسه.
على الصعيد الآخر، الذي لا يقل خطورة، فالاحتلال يزيف الحقائق المعنوية، يضخم أو يقلل من أهمية حدث ما، وقد يزيف أو يتجاهل واقعاً ما، وفي هذا المضمار عزا بنيامين نتنياهو عملية معبر الكرامة التي نفذها الشهيد الأردني ماهر مشهور الجازي ابن عشيرة الحويطات، إلى محور الشر الإيراني، بمعنى أن دافع الشهيد الأردني، لم يكن نابعاً من نفسه، بل هو مجند من قبل إيران قائدة «محور الشر» لتنفيذ هذه العملية.
يقصد نتنياهو بمقولته هذه، إخفاء حقيقة مشاعر الأردنيين تجاه ما يجري ضد الفلسطينيين، فهذا ليس فعلا أردنياً خالصاً، بل هو مدسوس عليهم من إيران الشريرة، وذهب محللون إسرائيليون إلى أكثر من هذا، بالحديث عن خطورة سقوط الأردن تحت السيطرة الإيرانية، وفتح جبهة جديدة في الأغوار على غرار جبهة لبنان. هذا يدخل ضمن استراتيجية نتنياهو، وتركيزه على اختلاق المحور السني الإسرائيلي الأمريكي الذي بشر به، لمواجهة محور الشر الشيعي الذي تقوده إيران.
هنالك غباء لدى الإعلام والمسؤولين الإسرائيليين، فهم لا يعرفون معرفة حقيقة مشاعر الأردني تجاه الفلسطيني، التي تعتبر عينة من مشاعر غالبية أبناء الشعوب العربية تجاه فلسطين وشعبها
أخفى الإعلام الإسرائيلي ردة فعل والد الشهيد الشيخ ذياب حسين الجازي، الذي قال عند تلقيه نبأ استشهاد ابنه «دمُ ابني ليس أغلى من دماء الفلسطينيين»، وهو ما قاله حابس الجازي ابن عم الشهيد، وما قاله شقيق الشهيد شادي مشهور الجازي، وما عبر عنه شيوخ العشائر والوفود التي جاءت قوافل لتهنئة أسرة الشهيد بدموع الرجال كما قال أحد الشيوخ. يمتاز هذا العمل بأنه أردني خالص، ومن ابن لإحدى العشائر المؤيدة والداعمة والمشاركة للنظام، وتعتبر واحدة من العشائر التي يعتمد عليها النظام في سلطته منذ الشريف حسين حتى الملك عبد الله الثاني. الشهيد ماهر خدم في الجيش الأردني، ثم في شرطته العسكرية، وعمل في حراسة السفارة الأردنية في واشنطن لمدة ستة أشهر في عام 2019 حسب تصريح لعمه ولزوجته، أي أنه من لبة النظام، ولم تسجل ضده أي مخالفة قانونية خلال فترة خدمته. إلا أن نتنياهو الذي يتصرف بعنجهية الرجل الأبيض أمام الهندي الأحمر، وكأن الموالين للنظام الأردني بالضرورة، هم موالون له أيضاً، ويَفترض أن يتقبلوا سياسته ما داموا موالين للملك، وطبعاً هذا شطط، فللأردني الموالي للنظام سياقه التاريخي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وهذا لا يعني الرضا عن علاقة النظام بدولة الاحتلال، خصوصاً، بعد كل ما ارتكبته من جرائم حرب، والدليل هو الآلاف التي تخرج مطالبة بإلغاء اتفاقية وادي عربة.
احتفالات الأردنيين بأبواق السيارات وإطلاق المفرقعات والرصاص وتوزيع الحلوى، في معان والسلط وعمان والرمثا وإربد وغيرها من المدن الأردنية، تؤكد ما هو بديهي، وهو أن الشعب الأردني يعيش حالة من الغضب تجاه ما يجري في قطاع غزة والضفة الغربية. وتؤكد أن سياسة الاحتلال المتمادية في الإجرام والهمجية، تُحرجُ أقربَ حلفائه في المنطقة، وتدفع بهم إلى منزلقات خطيرة، ولهذا لم يستطع النظام الأردني أن يستنكر العملية بصوت واضح، وما جاء على لسان الناطق باسم الخارجية الأردنية سفيان القضاة، هو تحميل مسؤولية بصورة غير مباشرة للاحتلال، فالبيان استنكر قتل المدنيين من أي طرف كان، بمعنى أن إسرائيل أيضاً تقتل المدنيين، وأشار إلى «تحذيرات الأردن المتكررة من تبعات استمرار العدوان على قطاع غزة والتصعيد الخطير ضد الشعب الفلسطيني» إلخ. عملية معبر الكرامة لا تشبه تلك التي حدثت عام 1997 في منطقة الباقورة الحدودية، والتي أدت إلى مقتل سبع طالبات إسرائيليات، وذلك إبان حكم الملك حسين، الذي جاء إلى إسرائيل معزيا أسر الضحايا، ودفع الأردن تعويضاً مالياً لذويهن، وقضى الجندي أحمد الدقامسة حوالي عشرين عاماً في السجن عقوبة له. هذه الحادثة تختلف جذرياً في توقيتها وهدفها وظروف تنفيذها، فقد جاءت بمبادرة المواطن نفسه، وليس حدثاً طارئاً ابن لحظته كما حدث في الباقورة، حيث ادعى الدقامسة في حينه، أن الفتيات سخرن منه أثناء صلاته، فما كان منه إلا أن رد عليهن بإطلاق النار، بينما هذه الحادثة جاءت بتخطيط وردة فعلٍ على حرب الإبادة في قطاع غزة والضفة الغربية، والتي ما زالت رحاها دائرة، وارتكبت وترتكب فيها أبشع جرائم الحرب. أتت هذه العملية بعد صلف وتعنت إسرائيلي مستمر، وبعد أربعة عقود من اتفاقيات سلام كان أولها كامب ديفيد مع مصر، ثم أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، ثم وادي عربة مع الأردن، هذه الاتفاقيات التي لم تزد حكومات الاحتلال إلا تطرفاً وطغياناً. هذه العلمية، جاءت لتقول إن اتفاق السلام لا يعني الرضا بالقضاء على الفلسطينيين وقضيتهم، وأن الولاء للملك حسين ثم لابنه الملك عبد الله الثاني، لا يعني الولاء للاحتلال الإسرائيلي الفاشي.
اعتبر شيوخ العشائر الأردنية، أن الشهيد ماهر أعاد الكرامة للأردنيين، وتبادلوا القبلات مع والده على الرؤوس والشوارب والأكتاف بدموع العزة والكرامة، وكما وصفها أحد الشيوخ في حضرة والد الشهيد» دموع الرجال على الرجال، ليست دموع حزن»، بل هي دموع فخر واعتداد، بأن هذا الشهيد ثار غيرةً على دينه وقومه ونصرة للمظلومين والضعفاء من أبناء جلدته. هنالك غباء واستغباء لدى الإعلام والمسؤولين الإسرائيليين، فهم لا يعرفون ولا يستطيعون معرفة حقيقة مشاعر الأردني تجاه الفلسطيني، التي تعتبر عينة من مشاعر غالبية أبناء الشعوب العربية تجاه فلسطين وشعبها، حتى في تلك الدول التي تعلن تطبيعها مع إسرائيل، فهذا تطبيع أنظمة وبروتوكولات برعاية أمريكية وليس تطبيع شعوب، الشعوب أصلا تجد صعوبة في التطبيع مع أنظمتها. لقد سعى الاستعمار الصهيوني والغربي إلى فصل قضية فلسطين عن قضايا العرب، وحصرها في الفلسطينيين، كي تسهل السيطرة عليهم، وحتى التخلص منهم، وقد أسهم الفلسطينيون أنفسهم في هذا الخطأ، وقد نجح الاحتلال في مرحلة ما، من بث الأوهام لدى كثيرين حول رغبته في السلام، وعن استعداده للتفاهم بطريقة او بأخرى على حل، وتمكن من تجنيد وسائل إعلام عربية تدين الفلسطينيين، ولكنه بجشعه وجرائمه، يعيد المتوهمين إلى صوابهم، ويعيد فلسطين لتكون مركز اهتمام العرب وأحرار العالم.
كاتب فلسطيني