كلما أقبل يونيو/حزيران من كل عام تنفجر الميديا بالآراء التي تدين الهزيمة، وتتلخص الإدانة كلها في سب جمال عبد الناصر ويضيع السؤال الرئيسي الذي ما زلنا نعيشه، وسأتحدث عنه في ما بعد من المقال. ومن المهم أن أذكر لمن لا يعرفني أنني منذ يونيو 1967 خلعت ثياب الناصرية، وأصابني الإحباط، واقتربت من الماركسيين، بل انتميت إليهم فترة في أحد التنظيمات السرية، حتى ابتعدت عام 1978 عن كل عمل سياسي منظم في السرّ، ووجدت أن أفضل إجابة على سؤال تغيير العالم هو أن أغير المكان الذي أعيش فيه، وكان غرفة مفروشة في شقة في القاهرة فأخذت طريقي إلى المملكة السعودية لأعود بعد عام واحد، استأجر شقة أعيش فيها مع زوجتي ليصبح لي بيت نظيف، حسن الإضاءة كما قال همنغواي، وتفرغت لكتاباتي الأدبية، ولم أبتعد عن العمل العام الواضح، وأعطيته من الوقت أقل كثيرا مما أعطي للكتابة الأدبية. أول مغالطة وأكبرها تتردد في ذكرى يونيو الكئيبة هو القول السخيف البشع، أن خروج الناس بعد خطاب عبد الناصر مساء التاسع من يونيو إلى الشوارع، كان منظما من قبل وعن هذا مقالي.
هذه فريّة وأنا لا أقول رأيا، بل حقيقة رأيتها، لقد كنت وقتها أعمل في شركة الترسانة البحرية في الإسكندرية، وكنت أمينا لشباب الشركة في منظمة الشباب. في مساء اليوم التاسع الكئيب هذا دُعينا لاجتماع في قسم الميناء للمنظمة، وهو المكان الذي يجتمع فيه كل أمناء منظمة الشباب في شركات الميناء، ومكانه في شارع البحرية في منطقة بحري. استمعنا إلى خطاب عبد الناصر، ونحن في حزن، وبعد أن أعلن تنحيه نزل علينا الصمت وقال لنا رئيس القسم بالضبط، إن عبد الناصر انتهى دوره، وسيكون مثل ماوتسي تونغ رمزا للعمل السياسي والفكر الاشتراكي بعيدا عن الحكم، أي لم يكن لديه أي تعليمات أن ننزل إلى الشوارع، نطالب ببقائه، أو نصنع اللافتات، لكن الشوارع كانت قد امتلأت بالأصوات الصارخة لسكان الشارع «حنحارب.. حنحارب». شتمناه ونزلنا مسرعين نلحق بالشارع والبشر. كنت في الوقت نفسه مسؤولا عن جماعة الدفاع المدني في الشركة، فأخذت طريقي إليها، ولم أمش مع الناس المتجهين إلى ميدان المنشية. المسافة طويلة من شارع البحرية إلى حي المفروز، حيث تقع الشركة، وفي طريقي قابلت آلاف البشر يصرخون «حنحارب حنحارب».
لا يفطن الكثيرون إلى ذلك ويصرون على أن ليلة التاسع من يونيو كانت مخططا لها وبعضهم يأتي بلافتة سخيفة فيها شتائم، وواضح لكل عقل أنها فوتو شوب رديء، ويقعون في الفخ نفسه، أن هذا الشعب ليلتها تم شراؤه بالفلوس.
رجال ونساء وبنات وشباب وأطفال متجهون إلى ميدان المنشية، قادمون من أحياء مينا البصل والقباري والورديان والمكس، وكان كثيرون منهم بملابس البيت. لم تكن هناك لافتة واحدة مرفوعة أو مجهزة. وصلت إلى الشركة فلم أجد أحدا فرحت أمشي بين الورش في الظلام، وكان النور مقطوعا أيضا خوفا من الغارات، فكانت أسود وأطول ليلة في حياتي، رأيت فيها الأوناش كأنها ديناصورات من عصور قديمة. عدت إلى مكتبي ونمت أبكي على الأرض حتى الصباح. ذهبت إلى ميدان المنشية فرأيت اللافتات تطالب ببقاء عبد الناصر، فعرفت أنه بعد نزول الناس بدأ الاتحاد الاشتراكي ومنظمة الشباب يعيدون النظر. حدث ذلك في منتصف الليل ربما، أو في الصباح يمكن لأنهم رأوا الناس في حزن وجنون، ولا يجب طبعا أن تفوتهم فرصة عملهم، لكن المهم أن ذلك حدث بعد تدفق الناس العفوي إلى الشوارع والميادين. لا يصدق الكثيرون ذلك ويصرون على أنها كانت تمثيلية مُحبكة، كأن أحدا كان يعرف أن عبد الناصر سيتنحى، ولم يكن ذلك سرّا إلا للقريبين منه جدا مثلا. يسأل الكثيرون كيف لمن تسبب في الهزيمة أن لا يُحاكم، وينسى الجميع أن مصر لم تكن بلدا ديمقراطيا، وأنها كانت كلها بإعلامها ومصانعها الجديدة التي كانت حقيقية، ومدارسها ومستشفياتها وكل إنجازاتها تنسب إلى الزعيم، وما زالت للأسف.
أقول كان نزول الناس الرهيب ليس حبا في الزعيم بقدر ما هو رفض للهزيمة، ولا يصدق أحد ويعتبرون الشعب المصري كله بهائم تم قيادها. كان البكاء واللطم على الخدود أكبر ظاهرة بين النساء والرجال، ويقولون إنه كان مدفوعا بأموال. ويأتون بأقوال لمشاهير عن الاستقبالات التي كانت بثمن، ويخلطون بينها وبين ليلة التاسع من يونيو، التي كانت ليلة عفوية للغاية فيها رفض للهزيمة أكثر من حب الزعيم، وأكبر دليل على ذلك أنه في العام التالي، حين تمت محاكمة قادة الطيران، وصدرت أحكام هزيلة، اشتعلت الجامعات والمصانع لأول مرة بالمظاهرات ضد الزعيم. لم يسبق ذلك إلا جنازة النحاس باشا عام 1959، التي انتهت بسرعة وقُبض على الكثيرين ممن كانوا فيها، وراحوا يهتفون بالحرية. أعيدت محاكمة قادة الطيران، لكن ما جعل الناس تسكت في غضبها كانت حرب الاستنزاف العظيمة. تحمّل الناس كل التعب الاقتصادي، وصارت الطوابير على الجمعيات التعاونية من أجل الأرز والسمك واللحم والزيت، وكان تحمّل الناس من أجل حرب الاستنزاف التي كانت أملا كبيرا في التحرير. أقول ذلك أنا الذي ابتعدت وقتها عن الناصرية، وانضممت إلى الشيوعيين، وعرفت مثل غيري لأول مرة كيف كانت الاعتقالات للمعارضين، وكان هذا كله خافيا علينا، فإعلامنا موجّه والإعلام الخارجي لا يصل، والإذاعات الأجنبية عليها تشويش وصعب الوصول إليها. لم أكن وحدي، بل الكثير من الشباب فعلوا مثلي، وخرجوا من عباءة الناصرية وقادوا المظاهرات في الجامعات والمصانع أيام السادات، حتى أطلق على البلد التيارات الإسلامية وهذا موضوع آخر. المهم أن كثيرين جدا يصرون أن ليلة التاسع من يونيو كانت تمثيلية، وهذا غير حقيقي وليس هذا رأيا، لكن ما رأيت وعشت. لماذا أكتب ذلك. ليس دفاعا عن عبد الناصر، بقدر ما هو دفاع عن الشعب، الذي كان مصدوما بالهزيمة أكثر من رحيل الزعيم، الذي بعدها لم يتوقف عن الرفض، وإن سكت سنوات فقد كان بسبب حرب الاستنزاف التي كانت أملا، وهذا هو ما يفسر أكثر من أي شيء حشود الناس في جنازة عبد الناصر في ما بعد.
طيب ما المشكلة الحقيقية في مصر، لم تكن الهزيمة فالمهم هو الخروج منها وقد حدث. المشكلة الحقيقية والمستمرة معنا هي محاولة كل من حكم مصر بعد 1952 أن لا تكون هناك ديمقراطية. لم يقتنع أحد أن الديمقراطية حتى لو حدثت بسببها أخطاء، يمكن إصلاحها وربما قبل أن تحدث إذا توفر مجلس نواب حقيقي ونقابات وصحافة حرة، إلخ، وإن كوارث عدم وجودها فادحة. هذه المشكلة التي كلما أراد المصريون الخروج منها تم اتهام من يقومون بذلك بالعمالة الأجنبية حتى الآن. هذا هو الإرث الذي نعانيه والذي كان الناس العاديون، وهم الأغلبية دائما، أيام عبد الناصر لا ينشغلون به لمشروعات الدولة الضخمة في الصناعة والثقافة والتعليم والصحة. الهزيمة رغم فداحتها أعادت الناس إلى فهم الديمقراطية الغائبة في الوقت الذي ظلت كل الأنظمة تتهم من يريدون ذلك بالعمالة، ووصل الأمر إلى القول إننا شعب غير مؤهل للديمقراطية، بعد أن انفجرت ثورة يناير وتم إفشالها والأسباب كثيرة للإفشال، أو الفشل وليس هنا مجالها.
لا يفطن الكثيرون إلى ذلك ويصرون على أن ليلة التاسع من يونيو كانت مخططا لها وبعضهم يأتي بلافتة سخيفة فيها شتائم، وواضح لكل عقل أنها فوتو شوب رديء، ويقعون في الفخ نفسه، أن هذا الشعب ليلتها تم شراؤه بالفلوس. هذه ليلة كانت على عكس كل ما عُرف من احتشاد، ولم تكن من أجل الزعيم، بقدر ما كانت رفضا للهزيمة وليس من رأي كمن سمع أجاركم الله.
٭ روائي من مصر
شكرا لك استاذنا الكبير لهذا التوضيح الهام والمنصف لشعب مصر العظيم صانع اكبر حضارة عالمية, مصر ام الدنيا حقا وحقيقة. عبد الناصر تنحى بسبب الهزيمة والذي باع الجولان مفروشا وانهزم لم يتنح بل صار رئيسا لسورية بانقلاب على صديقه.
التاريخ يكتب من جديد
من يسب عل
ًعبديالناصر ، ما عندهم ايا أخلاق، هاذا زعيم الامه ، ما بيجي مثلو ابدان
اضم صوتى الى صوتك يا استاذ كشاهد عيان على تلك الليله المشىْومه لا ارانا الله مثلها تانى ابدا .
تحياتي أستاذ ابراهيم. أشاطرك الرأي لقد بكينا كلنا ليلة التاسع من جوان ليس لاعلان تنحي الزعيم ولكن لمرارة الهزيمة. أتذكر أنه قبل انتهاء الحرب وبعد أن تم القضاء على القوةالجوية المصرية(قيل أكثر من 300 طائرة حطمت في المطارات) كان الاذاعة المصرية تعلن تسجيل انتصارات والمتهثل في اسقاط طائرات العدو والتقدم الى الأمام وتحطيم الدبابات تبين لاحقا أن انجازات العدو نسبتها القوات المصرية لنفسها دون خجل ونسبت خسائرها للعدو. منذ ذلك الحين لم تعد نثق في أنظمتنا ولا في وسائل اعلامنا الى يومنا هذا.
اذا كان خروج الناس الى الشوارع في مصر بترتيب او تنظيم الاتحاد الاشتراكي فهل كان خروج الناس العفوي في شوارع بيروت وغيرها من مدن العالم العربي بتنظيم من الاتحاد الاشتراكي ؟
2-البكباشي المهزوم دائما أسس لحكم عسكري غبي يكره الحرية والديمقراطية والكرامة والعلم والنظافة والعمل. إنه حكم يؤسس للقبح والوحشية والعداء للإسلام والأخلاق وبناء الأوطان مع كل ما تحمله عناوين صحفه وإعلامه وأبواقه ومثقفوه الذين فرضهم حتى يومنا بأجيالهم المتتابعة في حظيرتهم الشهيرة، من إنجازات وهمية لا وجود لها على أرض الواقع!
ولا أدري يا إبراهيم سر كراهيتك المقيتة للتيارات الإسلامية ولا أقول الإسلام. لقد ارتضيت الشيوعية فكرا ومنهجا وشهرة و… وتنعم بذلك في هدوء، لماذا تنكر على شعب أكثريته الساحقة تؤمن بالإسلام وشريعته ومنهجه التعبير عن إيمانه وعقيدته؟ إن الأكذوبة التي يروجها اليسار عن السادات وأنه أطلق التيارات الإسلامية غير صحيحة. إنه فقط أطلق المظلومين الذين حبسهم سلفه بعد أن قتل منهم أبرياء ، وأعدم مظلومين، وأفسد في الأرض بقوة السلاح، وضيّع البلاد والعباد أمام العدو الصهيوني! الشعب المصري حُرم من إسلامه ورأى التشهير بالإسلام في كل مكان، وبعد الهزيمة أو الوكسة كما سمها الشعب بدقة، عاد إلى أحضان دينه وحارب به، مستخدما السلاح المتاح والإعداد الممكن في معركة العبور.
3- ليلة التاسع من يونيو كانت تمثيلية في جانبها الذي تشير أنت إليه، بعد منتصف الليل. حيث تحرك التنظيم الطليعي ليستغل قهر الشعب لخدمة الطاغية المهزوم ويثبت أقدامه في الحكم ثانية، بعد أن نجح مسيلمة في كتابة خطاب التنحي الشهير الذي يقول فيه على لسان المهزوم إنه يتحمل المسئولية الكاملة، ثم يكتب خطاب العودة قبولا بإرادة الشعب . يا ويل الشعب ممن يلعبون بمصائره وأقداره، ثم ينسبون إليه أكاذيبهم الرخيصة. التنظيم الطليعي يا إبراهيم هو الذي كان يوزع شكاير الفلوس القادمة من الإمارات على الأنصار والمحاسيب تجهيزا لانقلاب العسكر على ثورة يناير والديمقراطية التي صنعها الشعب بحق! لقد عشت مثلك يا إبراهيم الهزيمة وما سبقها ودفعت مع مئات الألوف من أمثالي ثمنها في سنوات تجنيد وحرب قاسية، بينما كان المحظوظون مشغولون بأشياء أخرى!
4-العساكر المجرمون أفشلوا ثورة يناير كي لا ينعم الشعب المصري بإسلامه وحريته وكرامته والتفكير في وقف العدوان الصهيوني واستعادة حق الشعب الفلسطيني، ومن عجب أن يصير قائد الانقلاب الحالي صديقا طيبا للنتن وشركاه. في فمي ماء!
تصحيح : حكيم عامر مع برلنتي عبد الحميد ممثلة الإغراء في السينما المصرية التي تزوجها عرفيا.
يبدو أن الفقرة الأولى من تعليقي لم تصل، وهاهي:
-لماذا تقلب علينا المواجع يا إبراهيم؟ ليتك كتبت في موضوع آخر ، فالذي حدث في يونيو 67 جريمة لا تسقط بالتقادم لأنها خيانة عظمى، يجب محاكمة من اقترفها ولو كان كارها للديمقراطية، فقد مكنت العدو من إذلال الأمة كلها والسيطرة على مقدساتها، وتحويل حكامها إلى جنود بلا مقابل في جيش الدفاع الصهيوني، يحاربون الإسلام ويحاربون شعوبهم، ويزرعون ثقافة شريرة ضد الحرية الأخلاق والشورى والإنسانية. لماذا يا إبراهيم لا يحاكم الخونة ولو كانوا لا يحبون الديمقراطية؟ في الدول المتخلفة والمتقدمة الحاكم المهزوم يتنحى ويحاكم ويسجل في المناهج المدرسية على أنه مهزوم ! اقرأ التاريخ الحديث وبلاش القديم. ثم من قال لك إننا خرجنا من الهزيمة؟ إن الغزاة الصهاينة ما زالوا يفرضون إرادتهم علينا، ولا يستطيع العسكري المجرم الذي يحكمنا الآن أن يحرك دبابة أو طيارة عسكرية فوق سيناء إلا بإذنهم وتصريح منهم ليقتل شعبه في شمال سيناء.