ليلة مع الجمال والأمل

في مصر وبلاد كثيرة زرتها في العالم، كانت متعتي في زيارة المتاحف ومعارض الفنون التشكيلية. ولعي بالفن التشكيلي قديم، وكانت دهشتي الفطرية، من كيف تكون هذه اللوحة الصغيرة جميلة جذابة هكذا. ظل هذا يمشي معي حتى قرأت في تاريخ الفنون، وعرفت مدارسها المختلفة، وصرت مولعا بزيارة المعارض والمتاحف. صارت لي صداقات رائعة مع كثير من الفنانين في القاهرة والإسكندرية، ولا تزال مع الأحياء منهم.
لأربع سنوات تقريبا حرمتني الظروف الصحية من زيارة المعارض، لما يستدعيه ذلك من وقوف أمام اللوحات، حتى مَنَّ الله عليّ بالشفاء وصرت قادرا إلى حد ما، لكن أيضا يمنعني سكني البعيد عن القاهرة من زيارات كثيرة. جاء هذا العرض الفني في قاعة جميلة هو «آرت كورنر» في الزمالك، التي حين وصلت إليها تذكرت أني زرتها من قبل، وكانت آخر زياراتي لها لمعرض الفنانة الشابة الموهوبة لينا أسامة. حفزني هذا المعرض الذي يشارك فيه حوالي أربعين فنانا وفنانة من مختلف الأعمار والاتجاهات، وكذلك ما وراء هذا المعرض من عمل عظيم هو مشروع محو الأمية البصرية أو علم الخيال، الذي يقوده شاعر العامية غير العادي في صوره الشعرية وقصائده، سعدني السلاموني، الذي هو قصة نجاح وحده فائقة الروعة والدهشة والجمال. كتبت عن شعره من قبل وكتابه الرائع «محو الأمية البصرية ـ علم الخيال».
كذلك تعود علاقاتي معه إلى أكثر من ربع قرن، بعد أن جاء من قريته ليعيش في القاهرة، كنت معجبا بشعره وجنوحه وخروجه عن المألوف. أدهشني أنه قفز إلى مشروع علمي فائق الجمال هو محو الأمية البصرية. نحن جميعا كفنانين نعرف أهمية الصورة في الكتابة، وكيف هي مصدر لتفسيرات مختلفة ونبع لإلهام كبير. إنه يطمح أن يكون ما يقدمه علما جديدا، فهو يرى أن خمسا وتسعين في المئة من بناء الإنسان وتكوينه يأتي عن طريق الصورة.

والصورة كما يراها أنواع.. مرئية ولا مرئية ولفظية وصوتية. فالكوكب الأرضي صورة، وكذلك بقية الكواكب، والإنسان صورة واقعه الذي يعيشه. وكل صورة تقوم على الثابت والمتحول. يرى أن محو الأمية البصرية يستهدف المخزون البصري الذي يكمن في الذاكرة البصرية، وإعادة هيكلته حتى يتحول الإنسان من بشري يحن إلى الغابات وقانونها الشرس الذي يقوم على الدم، إلى إنسان ينتمي للجمال، ويضيف إلى دولة الإنسانية. يقول، إن الخيال يسبق العلم، فالخيال يحمل الفكرة والسرعة والضوء، فهو أسرع منا جميعا ويدور في فلك الصورة. اللغة البصرية بشكل عام هي أداة التواصل بين الشعوب، وغير ذلك كثير في كتابه.
المعرض هو لوحات مهداة من الفنانين والفنانات لمؤسسة محو الأمية البصرية، التي أقامها سعدني السلاموني لتأكيد الجمال البصري الغائب عن حياتنا للأسف، في الشوارع والميادين. الجميل فيه هو ما فعله هؤلاء الفنانون الذين لا تنقصهم شهرة، وإيمانهم بالمشروع العظيم الذي يضم قامات فكرية وعلمية، يطول الحديث عن أسمائها، منهم على سبيل المثال حسين محمود أستاذ الأدب الإيطالي وعميد كلية اللغات والترجمة في جامعة بدر. شجعني كل ذلك على الذهاب في محاولة لاستعادة شغفي بالفن التشكيلي، وذكرياتي في المعارض العالمية التي أقلها يوم أن ذهبت إلى متحف ألبرادو في مدريد وتجولت بين اللوحات حتى وصلت إلى لوحات غويا، فوقفت أمامها ناسيا المكان والزمان، ثم جلست على الأرض أمام لوحة «فريق الإعدام» وأمضيت بقية اليوم جالسا يندهش الناس مني ولا أهتم بهم، فعيناي على اللوحة، لأعود بعدها إلى القاهرة، وكنت مشغولا بكتابة رواية «طيور العنبر». ولأن أحد أبطالها شاعر، جاء الشعر مني على لسانه بعد أن سكنت هذه اللوحة روحي. أعجب الشعر الكثيرين، حتى إن مترجم الرواية إلى الإنكليزية المرحوم فاروق عبد الوهاب الذي كان أستاذا للأدب العربي في جامعة شيكاغو، اتصل بي من هناك يسألني من هو مؤلف هذا الشعر.

هل هو لوركا أم إيلوار أم كافافيس الذين يعرف أني مولع بهم، وجاء ذكر أشعار كثيرة لهم في رواياتي، خاصة ثلاثية الإسكندرية التي تشكل «طيور العنبر» الجزء الثاني منها، عن كيف صارت الإسكندرية خالية من الجاليات الأجنبية مع سياسة جمال عبد الناصر في الخمسينيات من القرن الماضي وأبطالها منهم. قلت له هذا شعر كتبته أنا بعد أن عدت من إسبانيا، وقضيت يوما في متحف البرادو في مدريد أمام لوحات غويا. غير ذلك كثير يمكن أن أقوله وكتبت بعضه في مقالاتي أو رواياتي.
قلت هي فرصة عظيمة أن أرى أعمال فنانين منهم جورج البهجوري ـ محمد عبلة – الخطاط الكبير خضير البورسعيدي ـ عصمت داوستاشي – رضا عبد السلام – ماجدة الشرقاوي – محمود أسعد ـ مصطفى الشيخ – أحمد الجنايني ـ محمد عرابي – خضر مصطفي ـ إيمان الحكيم – جلال جمعة – شيرين جواد- محمد عفت ـ محمد حاكم – سرور علواني- أحلام فكري- رضا خليل- نجلاء سلامة – إيمان خطاب – سامية بهمن- عكاشة عامر ـ عمرو عيسى- غاليليو وغيرهم، فضلا عن قوميسير المعرض الفنان الرائع، الذي للأسف باعدت بيننا الأيام، سمير عبد الغني، كذلك المسؤول الإعلامي الفنان فوزي مرسي. ذهبت ووجدت حضورا دافقا للفنانين والكتاب، فغير أسماء الفنانين كان هناك السفير رضا الطايفي رئيس تحرير مجلة «الدبلوماسي» وعدد كبير من الأدباء.
ذهبت ورحت أطوف بين اللوحات في الجاليري الرائع، توقفت أمام لوحات كثيرة اتسع بي العالم بها، ثم انتقلت إلى مقهى مجاور بدعوة الصديق عبد الخالق فاروق السياسي والاقتصادي صاحب الدراسات العظيمة.. دراسات وليست مجرد مقالات عن مصر، وكيف هي ليست فقيرة لكن أفقرها النهب والفساد. جلسنا ومعنا الروائي محسن الغمري والمفكر والروائي عمار علي حسن، والشاعر زين العابدين فؤاد صاحب «التاريخ في النضال الوطني» وأحمد دومة الشاعر وأحد أهم رموز ثورة يناير/كانون الثاني 2011 الذي يراه البعض مندفعا. هو سياسي حقا، لكنه شاعر تنفجر أشعاره بالرؤى الشجاعة، فالشعر خلف ما يسمونه اندفاعا، كذلك يكتب القصة القصيرة، وأعرف ما يكتبه منذ أيام الثورة، رغم اختفائه طبعا في السجن لعشر سنوات، حتى حصل على عفو رئاسي، بعد تدخل شخصيات مثل حمدين صباحي والمخرج خالد يوسف، وطلب كثير من القوى السياسية.

يناله الآن كثير من النقد في الإعلام الرسمي لاشتراكه في المظاهرات التي تقيمها نقابة الصحافيين أمامها تضامنا مع غزة، التي هي في روحه من قبل يناير 2011. كذلك كان معنا الصحافي محمد شبانة رفيقي وسندي في كثير من الخروج. كما قابلت لأول مرة منذ سنوات بعيدة المحامي عصام الإسلامبولي، الذي كان أصغر المحامين المدافعين عن شباب انتفاضة يناير 1977. وكانت أيضا بصحبتنا الفنانة الرائعة نجلاء سلامة زوجة عبد الخالق فاروق، التي حين وقفت أمام لوحتها التجريدية الرائعة، وجدت نفسي أتذكر أعمال الفنان فاروق حسني وغيره، وقلت لها ضاحكا لا أنسى يوما وقفت فيه في قاعة فنون تشكيلية في مركز بومبيدو في باريس أمام لوحة خالية نسيت للأسف اسم صاحبها، كتب عليها بالفرنسية لوحة المستقبل، وضحكنا. كان طبيعيا أن يأخذنا الحديث عن الفن إلى الحديث عن الأدب، ومن ثم السياسة والسجون وأدب السجون الذي عاد الآن مع مقالات بعض من أدينو بالسبب الوهمي، وهو الانتماء إلى جماعة محظورة وأفرج عنهم، فبدأوا يستعيدون الذكريات. أخذنا حديث ذوي الخبرة مثل أحمد دومة إلى الكتب، وكيف تدخل السجن أو كيف يتم منعها. المهم وجدنا أنفسنا في وسط معترك السياسة وما حولنا، وعاد بنا الزمن إلى ثورة يناير وأيام الأمل. رغم ذلك كانت سعادة المعرض الفني الرائع سندا لنا في الحوار، فلم تغادرنا البسمة، رغم ما آلت إليه الثورة. وما آلت إليه الأحوال. أربعون فنانا يهدون أعمالهم لمشروع محو الأمية البصرية، أبلغ دليل على أن في مصر أملا.

روائي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية