«ليليات رمادة» لواسيني الأعرج… الوباء السياسي ومصير الإنسانية المشترك

إن الكتابة في زمن جائحة كورونا كتابة تتحدى الموت بالفن والجمال لتعبّر عن حجم المعاناة الإنسانية، في واقع تجاوز الحدود التقليدية للدول. رواية أخذت من هذا الوضع الصحي غير الطبيعي موضوعا لها، جاء ليحرك سكون الأرض وهدوئها، وفي الوقت ذاته لتكشف هذه الرواية عن وضع متعفن بالفساد لسيطرة عصابة المال والسياسة. تدور أحداث الرواية ــ كتبها واسيني الأعرج في ثلاثين حلقة على صفحته بفيسبوك ــ في كوفيلاند وهي «مدينة بمثابة وطن، قبل أن تموت كوفيلاند ممزقة إلى أجزاء صغيرة، كانت مثالا للحياة والاستمرار. قاومت كل الأوبئة منذ القرن الميلادي الأول، وما تزال مستمرة في قتالها حتى اليوم. استعارت هذه المدينة أسماءها التاريخية المتتالية، من الأوبئة والمحن التي مرت عليها وعانت منها الكثير، إذ قتلت ربع سكانها. الكثير من المؤرخين القدامى، يقولون إن التبرك بالأوبئة، يبعد عن الأمة شرورها». ومن ثم فإن الرواية تهتم بمصير البشر، الذي هو مصير مشترك، والذي كشفت الجائحة عن الكثير من عورات الأنظمة المافوية التي تزرع الفساد وتتاجر في كل شيء؛ في الأعراض وفي الأنفس، في المخدرات وفي السلاح، وفي الأدوية وفي اللقاحات.

رمادة

رواية «ليليات رمادة»، قصة حب جميلة بين رمادة وشادي الموسيقار العالمي ومن ثم تتداخل الأحداث والوقائع، وتتضارب فيها المصالح، وتتعانق فيها العواطف، وتختلط فيها الأهواء، وتسمو فيها المشاعر الإنسانية وتخبو، وتتعرض فيها النفس البشرية لأقوى التجارب التي يمكن أن تهد الإنسان، وتحد من طموحاته. ولعل هذا ما يجعل رحلة القارئ نحو هذا النص محفوفة بالمخاطر، بمجموعة من الإغواءات المضللة من جهة، والمبررة فنيا من جهة أخرى، ما يولد شعورا بالتضامن في حالات وبشيء من التقزز والنفور وحتى العداوة في حالات أخرى، بل قد تصل إلى الكراهية لمّا يصبح القتل مجانيا من أجل ربح سريع و مضاعف.
«كل الناس هنا يتحدثون عن أن فيروس كوفيد 19، أو كورونا، ينتشر بسرعة مجنونة، وسيأكل الأخضر واليابس. أتدحرج في شوارع المدينة الممطرة، الربيع تأخر كثيرا هذه السنة. أستعيد كلماتك، واحدة واحدة، أحيانا أبكي، وفي أحيان أخرى أضحك. رويت لي أنك عندما عدت لأول مرة من أراضي الغربة التي أكلتك، ومنحتك شهرة كبيرة، وهدية ثمينة كبرت فيك مثل قنبلة موقوتة». هكذا تصدم الراوية القارئ بلغة مفجوعة بالألم، اختارت معجمها بعناية تامة وفائقة تجمع بين الأدبي والطبي، وتقدم صورة أخرى عن الأدب والأوبئة بخطاب عنيف.

رواية «ليليات رمادة»، قصة حب جميلة بين رمادة وشادي الموسيقار العالمي ومن ثم تتداخل الأحداث والوقائع، وتتضارب فيها المصالح، وتتعانق فيها العواطف، وتختلط فيها الأهواء، وتسمو فيها المشاعر الإنسانية وتخبو، وتتعرض فيها النفس البشرية لأقوى التجارب التي يمكن أن تهد الإنسان، وتحد من طموحاته.

«رمادة «هذه الشخصية المركزية في الرواية تعلن عن وجودها، وهي امرأة ليست ككل النساء، ولكن يمكن أن تكون أي امرأة على وجه الأرض هذه. تقول عن نفسها: «من لا يعرفني، أنا رمادة، لا يهم اسم أبي ولا جدي. الأول قتلني بسكين الجهل واليقين الصارم، الثاني سجنني في تاريخ لم يفدني في شيء، صبورة كما العيدان القديمة. صلبة كالحديد. لكنني عندما أغضب، ينهار كل شيء من حولي، وأفقد صلابتي. لهذا أداوي الغضب بالهرب منه، قدر المستطاع، كي لا أموت ضحية شهقة الجهل». ومن ثم فالرواية تناقش الموروث والتاريخ والتراث والمرجعية، وهي إذ تفعل ذلك فإنها في الواقع تؤسس لمرجعية جديدة لمجتمع كوني يتذوق الفن والجمال، ويحارب الفساد والمافيا والعصابة، ويربي في المجتمع والأفراد الذوق الفني الجمعي. ومن ثم فإن هذه الرواية، حتى إن كانت أسماء الأشخاص والأمكنة عربية، أو هكذا تبدو، فإنها في الواقع يمكن أن تحدث وقائعها في أي بقعة من الأرض، وأن شخصياتها يمكن أن توجد في أي مكان، ولعل هذا ما يجعل القارئ معنيا بأحداث الرواية وزمان وقوعها ومكانه، كما أنه سيشعر بنوع من المشاركة الوجدانية لهذا المصير المشترك في الألم وفي اللذة، وفي الفرح وفي الحزن، وفي المتعة وفي الجمال. ومدينة كوفيلاند قد تكون أي عاصمة عربية، ما يجعل القارئ العربي يشعر بنوع من التماهي مع عاصمة الأوبئة هذه، وما يجعل أيضا نفسه تتمزق من شدة الألم ومن شدة الغضب ومن شدة الكراهية، ومن شدة الأنانية، ومن شدة الحب، ومن شدة التعلق وشدة الإخلاص، ومن شدة الوفاء. رمادة شخصية اختيرت بعناية واهتمام لتحافظ على القيم الإنسانية في عالم موبوء بالفساد السياسي والإداري والأخلاقي والصحي؛ الذي تتحكم فيه عصابة من المافيا ترسّخت في بنية النظام، وفي صلبه إلى درجة أصبح أمر الفصل بينها مستحيلا. رمادة كانت الأمل داخل منظومة من اليأس والقنوط، وكذا عودة الطبيب هبري من أمريكا هي عودة أمل، وكذلك عودة شادي الموسيقار العالمي كذلك عودة أمل.

مجتمع منتهي الصلاحية

تقدم الرواية نموذجا عن عائلة مشتتة وممزقة، صورة الأب المريض بالبروستات، الذي تخلى عن دوره، ويسعى إلى بناء مشروع عائلي آخر مع زوجة ثانية، وصورة للأخت التي تبحث عن مصلحتها الشخصية، ولا تهتم بأمر العائلة، وأخ منغمس في عمله في محاربة الفساد ورموزه، خاصة مافيا المخدرات، وصورة الحبيب الغالي، المتمثلة في شادي، وصورة الصديق والزميل في الدكتور هبري. إن العائلة في هذه الرواية معطى فني وجمالي يمكن مقاربته من زاوية النقد الثقافي وكذا من زاوية علم النفس الأدبي وعلم الاجتماع الأدبي أيضا. تجعلنا الرواية نقف على حقائق صادمة عن صورة العائلة، بعد أن نخرها الفساد، والعائلة هي صورة مصغرة للبنية الاجتماعية الكبرى التي هي النظام، الذي عمل على طرد النخبة المتنورة، أو تعطيل دورها في المجتمع، فهاجر الأطباء والعلماء والأساتذة والفنانين مدينة أرهقتها المهالك والأمراض والأوبئة، والقهر والاستغلال، وتكررت فيها خيبات الأمل.
رواية «ليليات رمادة» عزف بالكلمات لوباء عميق يتخفى تحت ستار جائحة كورونا، وفي الواقع فإن الستار كان شفافا لم يستر عورة هذه المافيا الأخطبوط، التي وصلت أذرعه إلى جميع القطاعات وكل المستويات، وبعض الفئات الاجتماعية، وبعض الأفراد عبر ممارسات يومية وُظفت لها وسائل الإعلام و الدعاية المغرضة، التي تصور الهدم على أنه بناء، والاختلاس على أنه شطارة والرشوة على أنها إكرامية وهدايا.

٭ كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مريم:

    لم اتشوق من قبل لقراءة لرواية كرواية ” ليليات رمادة ” فقد تابعتك باستمرار طيلة سردها علينا إلكترونيا فكانت من أجمل وارقى الروايات التى قرأتها فهى دفىء وحنين وستر ومعالجة نفسانية وروحية واجتماعية، شكرا استاذ على هاذ الإرث والمولود الفكري والثقافي الجديد المتألق. تحياتي، لك كل الاحترام والتقدير. مريم من قسنطينة.

إشترك في قائمتنا البريدية