ليل هبة البارد والطويل

حجم الخط
0

لم أحمل لها بشارةً، لكنني وعدتها بزيّارتها قريبًا في سجنها، ووعد المحامي للأسير الأمني أمانة يجب أن توفى مهما كانت الظروف. وصلت بوابة معتقل الجلمة في ساعات الظهيرة ، كانت شمس الجليل قريبة من رأس جبل الكرمل، وكان الحَرّ على الأرض شديدًا. عرّفت عن نفسي فأدخلتني السجّانة إلى غرفة الاستقبال وطلبَت، بأدب، أن أنتظر لأنها أخبرت المسؤولين بوجودي، وهم يفحصون مع الجهات المسؤولة إذا كانت لدي موافقة لزيارة الأسيرة هبة اللبدي.
غرفة الانتظار ضيقة. يوجد فيها كنبتان وجهاز كهربائي يضخ الماء البارد والساخن، لكنني لم أتشجع على استعماله رغم شعوري بالعطش. كنت لوحدي. لم أشعر بالضجر، فشاشة هاتفي الذكي كانت جليستي الظريفة، بينما أبقاني ضجيج أبواب الحديد، وهي تفتح وتغلق بغضب وبوتيرة لافتة، في حالة تأهب مستمر وقلق. توجهت، بعد نصف ساعة من الانتظار، إلى السجانة مستوضحًا عن أي جديد، فأخبرتني بوجود موافقة على زيارتي، ولكنها تنتظر وصول السجان الذي سيرافقني إلى داخل المعتقل لأنه يتناول وجبة غذائه.
أعرف غرفة الزيارة في معتقل الجلمة جيّدًا، فهي تشبه كشك هاتف عمومي قديم يتسع لشخص واحد. يجلس فيها المحامي على كرسي وأمامه فاصل زجاجي سميك متعب للنظر ، ثم يتلوه فراغ ينتهي بشباك مقطع بمربعات حديدية صغيرة ستجلس من ورائها الأسيرة. على يميني هاتف سأتواصل بواسطته مع موكلتي، وورائي باب حديدي يذكرني بأبواب خزنات البنوك القديمة، أو بقصص الأقبية التي قرأنا عنها في روايات الإثارة الشهيرة.
حاولت أن استغل وقت انتظاري بترتيب ما سأقول لهبة، وكيف سأعيد إليها الثقة والأمل، خاصة بعد شعوري عندما قابلتها قبل أيام في قاعة محكمة عوفر، بأنها تائهة ولا تعرف ماذا يحصل معها وكيف ستخرج من هذا النفق المظلم. لم يكن معي سوى بضع أوراق نشرنا فيها شهادتها حول ظروف اعتقالها، كنت أقرأ التفاصيل وأشعر بما عانته بعد أن جاءت تحمل أملًا، فعاشت كابوسًا بشعًا لم ينته بعد. كانت هبة اللبدي في طريقها من عمان إلى فلسطين، برفقة أمها وخالتها، لحضور زفاف قريبتها عندما اعتقلتها قوات الأمن الاسرائيلية، في العشرين من أغسطس الماضي، على نقطة الحدود مع الأردن، حين وصلت جسر الملك حسين في الساعة التاسعة صباحًا، وكانت تحلم بقضاء خمسة أيام من الفرح في أحضان عائلتها. فصلوها عن أمها وأدخلوها إلى غرفة جانبية وقاموا بتفتيشها وهي شبه عارية، بعد أن رفضت إنزال ملابسها الداخلية. عصبوا عينيها وقيّدوا رجليها ويديها ونقلوها إلى معسكر جيش قريب. أبقوها في الشمس لمدة نصف ساعه ثم أدخلوها إلى غرفة فيها مجندتان. فتشوها مرّة أخرى وسألوها عن صحتها. كانت هبة مضطرّة لقضاء حاجة خصوصية، لكن الجندية رفضت إبقاءها وحدها، وأصرّت أن ترافقها، فدخلت معها غرفة المرحاض الضيقة. شعرت هبة بحرج شديد وعانت، وهي تمر بظرف صحي طارئ، من انتهاك بشع لخصوصيتها.

وعدتني أن ترجع إلى زنزانتها لتحلم بالزنابق، ووعدتها أن نبقى معها

نقلوها إلى معتقل المسكوبية ثم إلى معتقل بيتح – تكفا الذي وصلته بحدود الساعة الثامنة مساءً. كانت منهكة جدًا وتعاني من تبعات حالتها الصحية. لم تسترح في زنزانتها سوى نصف ساعة، جاءوا بعدها وأخذوها لجولة التحقيق الأولى، التي استمرت حتى ساعات فجر اليوم التالي. قضت على هذه الحالة مدة ستة عشر يوما من دون أن تقابل محاميها. كانت معظم جلسات التحقيق معها تمتدّ إلى ساعات طويلة وتتمّ وهي مقيّدة ومربوطة إلى كرسي مثبّت في الأرض. كادت تفقد وعيها أكثر من مرة لولا نوبات الآلام في ظهرها وصراخ المحققين الذين كانوا يحيطونها بكراسيهم القريبة ويتعمدون ملامسة رجليها. كانوا يستفزونها بالشتائم ويتفّون عليها ويصفونها بنعوت مهينة ويهددونها باعتقال اختها وامها، وبابقائها في الزنازين حتى تتعفن.
لقد مارسوا ضدها كل ضروب التحقيق، فحتى لعبة المحقق الجيد والمحقق السيئ جربوها، وتركوها، أكثر من مرة، في زنزانة صغيرة قذرة ومليئة بالحشرات، حيث كانت تصحو أحيانًا والصراصير والنمل على ملابسها. كانت حيطان الزنزانة إسمنتية وخشنة والفرشة رقيقة وبدون غطاء ووسادة، والضوء مشتعل طيلة الأربع والعشرين ساعة، والتهوية معدومة والرطوبة غير محتملة. كان الحمّام كالقبر والأكل ليس كأكل البشر، وكل وسائل التعذيب والقهر كانت مجازة في سبيل إكراهها على التوقيع على الاعتراف والإدانة.
لم تعترف رغم قساوة التحقيق، فنقلت من هناك إلى سجن مجدّو وبعده إلى معتقل الجلمة، ثم أعادوها إلى زنازين بيتح – تكفا، حيث أكملت فيها مدة خمسة وثلاثين يومًا من دون أن يحصل محققوها على أي أثبات يورطها في أي جرم كان أو مخالفة أمنية. أصدروا ضدها، في الرابع والعشرين من سبتمبر الماضي، أمر اعتقال إداري لمدة خمسة شهور ، بذريعة أنها تشكل خطرًا على أمن المنطقة وعلى سلامة الجمهور. فوجئت هبة بهذا القرار، فأعلنت بعد يومين منه اضرابًا كاملًا عن الطعام محتجة على استمرار اعتقالها ومطالبة بالافراج عنها وبإعادتها إلى موطنها الاردن.
لم أشعر بأن سجانًا كان يقف ورائي حين كنت أراجع التفاصيل وانتظر قدومها. فجأة سألني، فتوقفت عن متابعة باقي فصول قصة العذاب: هل تتذكرني؟ وأردف، قبل أن يسمع ردي السلبي، بأنه يعرفني منذ أكثر من ربع قرن حين كان يرافق الأسرى الفلسطينيين من وإلى المحاكم العسكرية. أأشفق عليك؟ قلت له بما يشبه الدعابة، فأنت، على ما يبدو، محكوم أكثر من أسراك بالمؤبد، لأنك تنام في بيتك وتحلم بالسجن وبطرطقة أبوابه الحديدية ووقع المفاتيح على الأقفال، بينما ينام الأسرى الفلسطينيون ويحلمون بالحرية، ويشعرون بدفء فراش امهاتهم وبحنان زوجاتهم. رأيت في عينيه وميضًا يشبه نوبة الغضب، أو ربما إشارة النعم. لم يجبني فقد تراجع وأغلق عليّ الباب لأبدأ زيارتي لهبة.
أدخلتها سجّانة شقراء، بدت غير ودودة، وأقعدتها على الكرسي وراء ذلك الشباك الحديدي المقطّع. كانت يداها مقيدتين وفي يمناها زجاجة ماء بلاستيكية. طلبتُ فك قيدها قبل بداية اللقاء، فعادت السجانة وأفهمتني بلهجة عاتبة انها تعرف وظيفتها.. وفكت القيد. باشرتني هبة بابتسامة بعثت في نفسي طمأنينة، واخبرتني انها ما زالت مضربة عن الطعام وترفض أن يفحصها أي طبيب. صار صوتها أخفض وفيه مسحة حزن وغصة، فهي قلقة وتريد أن تعود إلى أحضان عائلتها والوطن. كانت رغم الوجع في صوتها صلبةً وسخرت من معذبيها، فحتى عندما أخبرتني انها لم تستحم منذ حوالي الاسبوعين ضحكت كما تضحك الفراشات.
أخبرتها أننا ما زلنا ننتظر قرار قاضي محكمة عوفر العسكرية في طلب النيابة بتثبيت امر اعتقالها إداريًا لمدة خمسة شهور بحجة انها تشكل خطرًا على أمن المنطقة. لقد حضرت هبة الجلسة التي انعقدت في الاسبوع الماضي وسمعت كيف أحرج محامي الدفاع ممثلَ النيابة حين سأله، إذا كان السبب في استمرار سجنها هو خطورتها على أمن المنطقة، فلماذا لا يطلق سراحها لتعود إلى وطنها الاردن حيث لن تشكل خطرًا عليكم؟ لم يتلقّ القاضي إجابة واضحة، فأمر بضرورة حضور من ينوب عن جهاز المخابرات العامة عساه يزوّد المحكمة بردّ شاف على هذه المسألة.
سمعتني بهدوء. حاولت أن أطمئنها فأعلمتها بأن تفاصيل قصتها نشرت بشكل واسع، وأن الاخبار أفادت بأن الاردن يطالب، بشكل رسمي وحازم، بالافراج عنها، ونحن نتوقع أن يحصل ذلك قريبًا. وعدتني أن ترجع إلى زنزانتها لتحلم بالزنابق، ووعدتها أن نبقى معها وبأنني سأطالب الآن إدارة المعتقل بنقلها كي تستحم في حمام لا يوجد فيه رقابة كاميرات كما يوجد لديها. طبعتُ كفي على الزجاج مودّعًا ففعلت مثلي وتواعدنا أن نلتقي قريبًا. قابلت مدير المعتقل وشكوته سوء حالتها، فأمر، بدون تردد، أن تنقل إلى «حمّام آمن».. وملائم. شعرت بحمامة تحط على كتفي .عدت مسرعًا إلى القدس كي أصل إلى بيتي قبل البدء بإغلاق الطرقات، كما يفعلون في كل يوم غفران فيُذيقون أهل القدس الشرقية طعم العيش في الجيتوات..
وهذه قصة أخرى.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية