تتصاعد مؤخراً حالة من الاستياء الشامل، غير المعبُر عنه بصيغ واضحة، أو منطقية، خاصة في الدول الغربية. فالاحتجاجات على التلقيح الإجباري تحوّلت مثلاً إلى سعي عديدين لالتقاط عدوى كورونا بشكل متعمّد. في ظاهرة قد يصفها أنصارها أنفسهم بـ«الغبية» أو «غير المنطقية». فيما بات من السهل أن يتحوّل أي تجمّع احتجاجي إلى اشتباكات عنيفة مع الشرطة. ويتزايد الحديث عن إعادة توزيع شامل للثروة نحو الأعلى، في ظل ما يسميه البعض «الديكتاتورية الصحية». يبدو أن هنالك شيئا ما خاطئاً من منظور كل هؤلاء المحتجين، يزداد الإحساس به إيلاماً لدى تذكّر عهود الازدهار والنمو الدائم، التي كانت عنوان السياسات العامة طيلة العقود الماضية.
وعد الازدهار ارتبط دوماً بمفهومين أيديولوجيين، ساهما دائماً في إعادة تعريف البشر لذواتهم وعلاقتهم بالزمان والمكان، وهما «الانفتاح» و«المرونة». بمعنى أن التدفق الدائم للأموال والاستثمارات والتعاملات الاقتصادية والمالية؛ وكذلك العلامات والرموز الثقافية، يتطلّب من الأفراد انفتاحاً ومرونة شديدة. سواء في ما يتعلّق بشروط عملهم وتأهيلهم المهني، أو بتقاليدهم الثقافية والاجتماعية، أو حتى بارتباطهم بمكان معيّن، بما يضمن مزيداً من الثروة المجتمعية، وكثيراً من التسامح والحريات الفردية والفرص للجميع. وقد تحقق «الازدهار» بالفعل بعد قبول البشر بكل هذا، وشهد العالم فترات غير مسبوقة من النمو.
كان أكثر ما يعرقل التدفقات غير المحدودة للسلع والأموال والرموز، مؤسسات اعتبرت نفسها دائماً تقدمية، أو على الأقل «ديمقراطية اجتماعية» مثل النقابات، التي جمّدت سوق العمل وحرية الشركات، بإصرارها على حقوق عمل معقدة وكثيرة، وحماية عمالها من كل منافسة. ما أدى لفترات طويلة من الركود، ولضعفٍ في التوظيف والاستثمار، وصل ذروته في سبعينيات القرن الماضي، إلا أن مقاومة «الديمقراطية الاجتماعية» حُطمت تماماً، بفضل سياسيين استثنائيين مثل مارغريت ثاتشر، في واحدة من أهم المعارك الطبقية في التاريخ المعاصر. هكذا يمكن القول إن ثاتشر، السيدة المحافظة، كانت «تقدمية» من منظور ما، في وجه تقاليد اجتماعية – طبقية مترسّخة أعاقت التطوّر والنمو. وبالفعل يرى كثير من «التقدميين» اليوم أن عصر الديمقراطية الاجتماعية كان بالغ الذكورية والبياض والانغلاق.
وبعد سنوات من النمو اللامحدود، دخل العالم عصر أزمات اقتصادية واجتماعية كبرى، ما جعل كثيرين يعتبرون أن كل الازدهار السابق لم يكن سوى فقاعات مهيئة لانفجارات مؤلمة، تدفع ثمنها الفئات الأفقر، التي فقد أفرادها معظم الأطر الاجتماعية والثقافية الصلبة، التي كانت تحميهم. ولم يبق لبعضهم من «الازدهار» إلا الاصطفاف لنيل مساعدات «بنوك الطعام» بعد أن فقدوا قدرتهم الشرائية ومدخراتهم، مع التضخّم والبطالة وارتفاع أسعار الطاقة، كما يحدث حالياً في بريطانيا ودول أوروبية عديدة. يطرح هذا أسئلة مهمة عن «المرونة» وما أدت إليه: كيف غيّرت الأداء الاجتماعي والسياسي للبشر؟ وهل سيستطيع الناس الحفاظ على مرونتهم إلى ما لانهاية؟
قد لا يتمكن البشر من الحفاظ على «مرونتهم» إلى ما لانهاية، وعندها يصعب تخيّل شكل الانفجارات وردود الفعل الناتجة عن كل الضغط الذي يعيشونه. وهنا قد لا يكون مجدياً لوم الشعبويين والمتطرفين على نجاحهم في استقطاب البشر فاقدي الأمل. والأجدى التفكير بفشل «تقدمية» تأقلمت تماماً مع «الحس السليم» لعقود الإذعان.
انهيار المبدأ الجمعي
كان للهزيمة التي منيت بها الطبقة العاملة المنظّمة في بريطانيا بالتحديد، في ثمانينيات القرن الماضي، تأثير أيديولوجي كبير في عالمنا المعاصر. وربما لا تقل أهمية عن أحداث مزلزلة أخرى مثل، انهيار الاتحاد السوفييتي، لأنها أظهرت عجز الطبقة العاملة، ذات التقاليد الأعرق في العالم، عن ابتكار بدائل وحلول للركود القائم. وكذلك لأن خصومها، من أيديولوجيي النيوليبرالية، لم يتحدثوا فقط باسم الشركات الكبرى، بل باسم كثير من العمال، الذين حرمتهم النقابات من القدرة على الدخول في تعاقدات حرة، قد تكون أنسب لمصالحهم. وهكذا فإن أيديولوجيا الديمقراطية الاجتماعية، بدت عاجزة حتى من منظور الطبقات الأدنى، التي ادعت دائماً الدفاع عنها.
أدى هذا لنشوء «حس سليم» جديد لدى فئات واسعة جداً: معظم الأطر الكلية، التي ادعت تمثيلنا في ما مضى، مثل القومية، النقابات، الكنائس، الأحزاب السياسية، كانت تضطهدنا، وتعرقل فرصنا في النمو واكتشاف فرادتنا. يمكن هنا ملاحظة اختلاف أساسي في الأداء السياسي والاجتماعي للبشر، خاصة في الطبقات الأدنى، ناتج عن اضمحلال أي مبدأ جمعي كان قادراً على تحريكهم، بل حتى بناء تصوّرهم عن الذات والعالم. حلّ البحث الفردي عن المنفعة والمتعة والهوية والخلاص محل مفهوم الانتماء للجماعة، حتى المعارضة الأعنف والأكثر راديكالية للنظام اختلفت طبيعتها، فبعد أن كان مقاتلو الجماعات المسلّحة من أبناء المزارعين والعمال في أيرلندا الشمالية، أو إقليم الباسك مثلاً، المرتبطين بمفهوم ما عن جماعة قومية أو إثنية، صارت الأصولية الدينية، المنبتة الصلة عن أي سياق اجتماعي أو ثقافي صلب، هي الشكل الأنسب للعصر. وبات من المألوف أن يخرج أصوليون من أي طبقة أو عرق أو وسط اجتماعي، يغيّرون دينهم أو يعيدون اكتشافه بطريقتهم، ليقاتلوا في أي مكان حول العالم. بعد أن خاضوا تجربتهم الذاتية الفريدة.
إلا أن غياب المبدأ الجمعي يثير تساؤلات عن المفاهيم الكلّية عموماً: هل تفتقر النيوليبرالية، أيديولوجيا الرأسمالية المعاصرة، لمبدأ كلي فعلاً؟ كيف إذن استطاعت صياغة «حس سليم» لدى البشر عموماً؟ قدّم كثير من المفكرين مقترحات للإجابة، ومن أكثرها كلاسيكية حديث فالتر بنيامين عن الرأسمالية بوصفها ديناً. والمحاولات المعاصرة للمفكر الإيطالي موريتسيو لاتسراتو لاستعادة «جينالوجيا الأخلاق» لنيتشه، التي تعتبر الديون، وضرورة الوفاء بها، أساساً لكل المنظومات الأخلاقية الكلّية السائدة. يبدو أن الأيديولوجيا المعاصرة قد برعت في نزع توطين البشر من كل ما هو جمعي، لإعادة أقلمتهم ضمن كليات فردانية: صنم المال، والسعي الفردي المشوب بالذنب، لاكتسابه وتكثيره؛ شعور الهم الناتج عن الغرق في الديون، وضرورة الوفاء بها؛ الانسحاق تحت عبء النجاح والفشل، وتحميل الذات الفردية مسؤوليته؛ نهاية الملاحم الكونية الكبرى، لمصلحة أقصوصة بالغة الدنيوية، لكن شديدة الشمولية: الفرد الذي يعيد ابتكار نفسه، الذي يختلف عن الكسإلى ومحدودي الأفق، بقدرته على المرونة والتأقلم لتحصيل المكاسب، الذي كان لا بد من تحطيم كل الأصنام الجمعية، كي يبرز للوجود.
صوفية الإذعان
تبدو المكاسب الفردية، وفق هذا التصور، أشبه بحالة من الفناء الصوفي، في ما وراء شرط اجتماعي شديد التعقيد: الفرد المرن، بمصالحة ومشاعره وهوياته، قادر على تجاوز كل الظروف، نحو حالة من التجسّد الكلي، الذي يعيد صياغة العالم على صورته ومثاله، ويكفيه انتزاع الاعتراف في المؤسسات القائمة، كي يحقق ما يشاء. كل ما يهواه، ما يريد امتلاكه واكتنازه، ما يعتقده عن ذاته، قابلٌ للتحقيق، بمجرد أن «يكون أفضل نسخة عن نفسه».
في العالم الواقعي يبدو أن قراءة الأرقام والبيانات تقود إلى نظرة أكثر تشاؤماً وسوداوية: البشر غدوا أفقر وأضعف، يبرمون عقود إذعان مع مؤسسات وكيانات ضخمة، لم تفقد جمعيتها، واستفادتها من الامتيازات والتسهيلات التي تقدمها السلطة، دون أن تكون لديهم القدرة على التوحّد في أي كيان منظّم، يدافع عن حقوقهم في وجه تلك الكيانات الفائقة. صار الفرد المعزول شخصية اعتبارية، عليها أن تخوض مفاوضات عسيرة مع شركات وحكومات ومؤسسات فائقة التنظيم والقوة، تُعتبر بدورها، من منظور قانوني بحت، شخصيات اعتبارية متساوية مع الأفراد.
هذا الفرق الهائل في القوة والتنظيم، الذي تغفله المساواة القانونية الشكلية، يختفي بشكل سحري بفضل الأيديولوجيا السائدة. هكذا يمكن للبشر مثلاً أن يبرموا عقوداً، تجعل حالهم أقرب للعبودية، مع شركات ضخمة مثل «أمازون» و«وول مارت» مثلاً، ليعملوا عملاً شاقاً دون حقوق أو ضمانات، دون أن ينتبهوا إلى أن كل «التسامح» و«المرونة» اللذين يملآن العالم، لا يمنعان من استعبادهم بوقاحة مخاتلة. ودون أن يكون لهم ظهير يحميهم.
احتجاج أخرس
يبدو البشر وسط هذا الظرف، وبغض النظر عن تصوراتهم عن ذاتهم، أقرب للمخبولين: يريدون كل المكاسب، بإمكانيات شديدة التشتت والضعف. وعندما يفشلون يغرقون في الاستياء والنقمة والتظلّم، ويستمرون في الحياة من خلال التشبث بكل المسكّنات الممكنة: سواء نظريات المؤامرة، ومنها أيضاً الحديث عن كيانات خرافية شريرة جعلت العالم أسوأ، مثل «الرجل الأبيض»؛ أو اللجوء إلى نمط من العزاء الكيميائي: المخدرات وأدوية الاكتئاب والمسكرات. ربما كان أسلوب الشموليين القدماء أكثر واقعية، رغم كل أيديولوجياتهم «الخشبية»: إنشاء مؤسسات ذات قيم جمعية، تعفي الذات الفردية المعزولة من مسؤولية مواجهة عالم متفاوت القوة بشكل هائل، وتمكّن البشر من التوصّل لمعنى معيّن حول معاناتهم وآلامهم، ما يحقق لهم حداً أدنى من المكاسب والأمان.
قد لا يتمكن البشر من الحفاظ على «مرونتهم» إلى ما لانهاية، وعندها يصعب تخيّل شكل الانفجارات وردود الفعل الناتجة عن كل الضغط الذي يعيشونه. وهنا قد لا يكون مجدياً لوم الشعبويين والمتطرفين على نجاحهم في استقطاب البشر فاقدي الأمل. والأجدى التفكير بفشل «تقدمية» تأقلمت تماماً مع «الحس السليم» لعقود الإذعان.
كاتب سوري
العالم يسير نحو الهاوية