من حق أحرار العالم أن يتألموا لمصاب الفلسطينيين واللبنانيين الذين تنكل بهم آلة القتل الصهيونية، وما من عاقل له القدرة على أن ينفي التزامه الأخلاقي والإنساني تجاه الذين هجروا وعذبوا واعتقلوا، ومن نظر إلى الواقع العربي المرير وتواطؤ العالم المتحضر، يبصر الخذلان الكبير الذي ابتليت به الأمة من رهط تشايعوا على استعداء طموح شعوبهم في الحرية والعدالة والكرامة. حتى المؤسسات التي سيقت إلينا زمن الاستقلال الوطني والصحوة والانفتاح العولماتي، ما كانت لها الأساسات سوى أنها دمى تحركها الثيوليبرالية حين تستشعر خطر زوال وكيلها الإسرائيلي، حتى إنّ أطرافها الوظيفية تلاشت ملاحمهم التي ناطحت السماء كذبا وزورا، وهي ترقب كيف تعيث الثيوليبرالية فسادا وخرابا.
ما الثيوليبرالية؟
ثمة إشكالية طرحتها عملية السابع من أكتوبر، والمتمثلة في مدى قدرة الحضارة وقيمها على استيعاب الحقوق الكاملة لشعوب “الشرق”، حيث الشرق بوصفه العالم الآخر للغربي المتحضر، ومع الثنائية التي افترضتها قوى الاستشراق وجسدتها الكولونيالية على المستعمَرين، لم تكن سوى أطروحة متخيّلة لتاريخ وثقافة مؤسطرة، عن العربي والمسلم الشرقيين بالضرورة، ولم تتوقف تلك التخييلات حتى بعد جلاء الكولونيالية عن المنطقة، لتحل مكانها عبر نوافذ كثيرة ساهمت في فتحها هيمنة سياسة تسليع الأشياء استعمارية بيضاء تحت رايات الحرية والديمقراطية.
كانت الحرية مربط الحضارة لتعزيز قيمها المشتركة الداعمة لبقاء الجنس البشري، ومع تطور فكرة الهيمنة وتجاوزها الحدود الأخلاقية للعلاقات السياسية والاقتصادية، انبرت قوى التغيير لمجابهة المزاعم بنشر الحرية والعدالة والديمقراطية في العالم الجنوبي، وتحت لواء النيوكولنيالية تداعت ثقافة تجنيد الدول لمحاربة “الإرهاب الإسلامي” وفق تصور الصهيونية، وانطلاق مرحلة استثنائية للعالم معنونة بخطوط حمراء قولبتها الإمبراطورية تحت شعار “من ليس معنا فهو ضدنا”، معلنة تأبين حوار الحضارات.
أخذت النيوليبرالية شكلها النهائي الأكثر عنفا وسوداوية في تخليها عن القيم الإنسانية المشتركة، واستبدالها بـ”قيم التسليع الليبرالي” المرتبطة بالهوية النيوليبرالية، وبدل أن تكون الحرية والعدالة والكرامة للجنس البشري، أصبحت مناهضة المحتل وتحقيق تجارب ديمقراطية ناجحة متعلقة بمدى استجابة “حرية الآخر” للاعتراف بمعيار التجندر الحضاري، والتي ارتكزت في أطروحتها على “جندرة العالم وأشيائه”، مقابل التحيّز المستميت للصهيونية في الشرق الأوسط، فقتل الآلاف من المدنيين في فلسطين ولبنان، لا يمثل شيئا أمام حماية الهويات العابرة.
حين استدعت حركة السترات الصفراء الأوروبيين للانتفاض ضد هيمنة المؤسساتية الأوروبية، واجهتها شرطة العالم المتحضر بالهراوات والاعتقال، وعندما خرجت الملايين في أوروبا لتتظاهر ضد حرب الصهيونية في فلسطين ولبنان، تلاحقت اجتماعات الأوروبيين لسنّ قوانين تجرم معاداة الصهيونية وتشرع اعتقال المتضامنين مع المقاومة، كاشفة عن دين الثيوليبرالية الذي لا يؤمن بالحق الإنساني في العدالة والكرامة والحرية، بل بثقافة الإرهاب والتهجير والابادة، فالفلسطيني واللبناني وحتى اليهودي الذي استجلبته آلة الصهيونية ليكمل مشروعها في فلسطين، لا يمثل سوى رقم في سلم بورصات التسليح، أو هدفا مستباحا لوحشية الثيوليبرالية.
ضمن محطاته التاريخية الاستحقاقية ظل البيت العربي يبرح مكان الصمت، لا يتجاوز خطوطا حمراء رسمت الاستعمارية الغربية له، مجيزا له تلك التي بإمكانها أن تلقي البراميل المتفجرة على رؤوس المدنيين في سوريا، أو تحشد الآلاف من الأبرياء في معسكرات الاعتقال، ومع أنّ الحلم العربي في تحقيق الوحدة لم يجد البيت الذي يأوي إليه مع مأساته المتكررة وخيباته الوطنية، ولربما كانت الجامعة العربية العقبة الاولى في استتباب وحدة الأمة، إذ لم يكن خلافها على تنمية مقدرات دولها، بقدر ما تلاحقت هزائمها أمام الامتحانات السياسية والاقتصادية التي فرضتها المتغيرات والضرورات التاريخية، لتنزاح في زاوية رهط تتلمذوا في أقبية المخابرات البريطانية.
وغير بعيد عن الجغرافيا التي قصفت بأطنان التنكيل الدولي والمحلي، يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي عمليات التهجير بفلسطين ولبنان، بإذن من الإمبراطورية التي خلعت عنها وجهها الحضاري، إذ لا يتوانى المحتل الصهيوني للحظة في استهداف المدنيين والطواقم الطبية والصحافية، معززا سردياته المضللة بضوء أخضر من المؤسسات الصهيونية الداعمة له، ولتزداد وتيرة اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى والتهديد بالمذبحة الكبرى في الضفة الغربية، في وقت لم يشفع للفلسطينيين واللبنانيين لدى الأمين العام للجامعة العربية استدعاء أعضائها لاجتماع طارئ تجاه التحوّلات المخيفة “للوضع القائم” في المنطقة، والذي تعمل حكومة نتنياهو على ترسيخه وفرضه بالقوة.
منذ بدأ العدوان الصهيوني على القطاع، تصاعدت دعوات لإدخال المساعدات الانسانية للغزاويين عبر معبر رفح، لتجد المبادرات الشعبية والدولية أبواب المعابر موصدة في وجه آلاف الشاحنات التي ترابط على الحدود المصرية الفلسطينية، بينما ظلت سلسلة الإمدادات العسكرية والاقتصادية مستمرة نحو الاحتلال عبر أشقـاء التصهين والجغرافيا، ولم يتحرك نظام السيسي إلا بضوء أخضر فاتحا المعابر لإدخال الفتات من المساعدات الإنسانية ليس بموجب المقرر الدولي وقرار مجلس الأمن، بل بالتوافقات الأمنية بين رهط الصهيونية وحلفائها ممن تحالفوا على الحلم العربي الجامع، وإلى هذه اللحظة لا يسمح بمرور قوافل الإغاثة الإنسانية للقطاع.
يتألم أحرار العالم لتراجيديا الفلسطينيين واللبنانيين كما يتألمون لهول الكوارث التي أحاطت بغيرهم، في سوريا والسودان وبورما وأفريقيا الوسطى والصحراء الغربية، والتضامن الإنساني نحو معاناة المهمشين والمغيبين لا تتجزأ ولا يمكنها أن تأخذ صورها العنصرية والاستشراقية المقيتة، ورباط الأمر كله على استيعاب النفس البشرية للمآسي والمعاناة وتجاوزها، هو قدرة الإنسان على السعي خلف الحرية والكرامة الإنسانية، فما معنى أن يعيش البشر مستعبدين في ذواتهم وهوياتهم، وأحلامهم مرهونة لرهط مؤسساتي لا يمكنه تقبل السلام العالمي إلا تحت صوت القنابل والتهجير، وما مأساة البشرية إلا في الرغبة المستميتة على الاستلاب والهيمنة بدل الاختلاف والتعايش، والمحتل مهما كانت ادعاءاته الحضارية، غير آبه بالحق في الحياة لأصحاب الأرض، معتبرا مقاومتهم صورة للإرهاب والتخلف، وما الخوف من كسر أغلال التبعية والخضوع، إلا وجه قبيح للرفض المتوحش لآلة القتل الصهيونية وهي تعيث عبر وكلائها فسادا ودمارا بشتى أنواع الإبادة.
بعد طوفان الأقصى جرت عدة متغيرات على الصعيد الإقليمي والدولي، وما كان مسكوتا عنه وتحت الطاولة، بات جليا للذين يعكفون على نصرة القضايا الإنسانية، حتى إنّ أسطورة دولة الاستثناء لم يعد لها قبول في السردية الغربية، وتصريحات مندوب الاحتلال في مجلس الأمن واتهامه لجامعات ومراكز أممية بدعمها لحماس، فشل ذريع لترسانة الصهيونية الإعلامية في شيطنة المقاومة وحصرها في صورة الإرهاب.
قامت إسرائيل على أنقاض الانتداب البريطاني والعجز العربي، وما زالت ترسم لها سياساتها الاقصائية في الأراضي المحتلة هوية غير قابلة للتعايش ولا التفاوض، ولكن ثمة أمر مهم في الفكرة الاستعمارية للصهيونية، وهي تضع لمساتها الأخيرة في تغيير الوضع القائم، والمتمثلة في “لعبة المفاوضات” التي بموجبها تنازلت السلطة الفلسطينية على الحق في المقاومة، أضف إلى سلة الانبطاح التاريخي عبر ابرام صفقات التطبيع العربية الإسرائيلية، وتحت وهم السلام النهائي سيقت مشاريع تهويد الضفة والقدس في وقت أبان التطبيع العربي عن نتائجه التي أظهرت حقيقة استفراد آلة القتل الصهيونية بالفلسطيني، والعمل على التنكيل به وتهجيره واختزاله في الضفة والقطاع.
بندقية المقاوم
لم يتخل العرب عن دورهم تجاه الشعب الفلسطيني المقاوم لأعتى أدوات الاستعمارية الغربية فحسب، بل تجاوزوا حدود الارتباط التاريخي والجغرافي مع مقدساتهم في القدس، وبدل العمل على مجابهة الاحتلال ولو بالصمت تجاه المقاومة، دخلت جحافل عربية حظيرة التطبيع والانبطاح للصهيونية، عبر سرديات مضللة تجرم المقاومة، في مقابل تبرئة تاريخية لنتائج المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، فالمفاوضات هي لعبة الاحتلال الدائمة للظفر بما لا يمكن الحصول عليه بالقوة، وجنوح المقاومة للسلام وإن كانت ذات قدرة، ما هو إلا جولة في تاريخ الصراع الصهيوني ضد الأمة، ولتقوية شوكة المفاوضين في فلسطين المرابطة. كان على أحرار العالم أن يدعموا المقاومة بشتى أنواع الدعم السياسي والثقافي والإنساني، فالحرية لن تأخذ بحبر المفاوضات، بقدر ما تمنحها بندقية المقاوم الحق في التفاوض.
كاتب جزائري