يصف المؤرخون وبالطبع المحللون السياسيون، أوضاع عالم اليوم وما يشهده من توترات وحروب، لم تعد قاصرة على أطرافه، بل تتمدد إلى عمقه، الذي ظلَّ في مأمن من أصوات المعارك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يصفونه بأنه يقترب كثيراً من الوقوع في حرب كونية ثالثة. فإذا كان واقع الحروب قد أسس في الماضي أو أعاد بناء وتعرف العالم على نظام عالميWorld Order جديد، كما هو الحال في حروب أوروبا، التي ورطتها نزعاتها الإمبريالية بمفهوم عالم التمدد الاستراتيجي الجغرافي في الجيوبوليتك؛ والمجال الحيوي، وما تبع ذلك من نظريات، أخرجت وحش أوروبا من نظرية الفلسفة السياسية، كـ»اللفياثان» الكتاب الذي ألفه الإنكليزي توماس هوبز، إلى السوبرمان للفيلسوف الألماني نيتشه إلى نازية هتلر العدمية.
لقد وجد العالم نفسه فجأة يتعامل مع مفاهيم عفا عليها الزمن، تعود وبقوة أشد ضراوة كمفهوم الجيوبوليتيكا بكل تداعياتها، التي تنتج عن ممارسة للسياسة عن طريق الحرب، وفقاً لمقولة للقائد الاستراتيجي البروسي كلاوزفينز، وتؤدي بالتالي إلى نتائج مشابهة كتلك التي فتكت بالبشرية في ماضي الحروب الكونية.
عالم اليوم بما يشهده من تحديات في التغير المناخي والكوارث البيئية وشبح الأسلحة النووية يدخل منعطفاً خطيراً وفي مسار حرج قد لا تكون العودة إلى نسخته القديمة ممكنة
بعد عام من غزو روسيا لأوكرانيا، في حرب تزداد كلفتها البشرية والاقتصادية، يوماً بعد آخر، وتقترب المواجهة فيها غير المحدودة بين روسيا والغرب الأطلنطي على مدى متسع النطاق، بما يشمل دولاً تساند روسيا، كالصين وإيران وكوريا الشمالية، وجميعها دول تصنف في خانة محور الشر في الوصف الأمريكي. ودخلت روسيا بعمليتها التي قال عنها إنها عملية خاصة، تسندها مرجعية تاريخية، أي إرث (الاتحاد السوفييتي)، وأسس أوراسيا الجيوبوليتكية، كما نظر لها منظر الكرملين الرسمي ألكسندر دوغين، وبالتالي لم تعد معركة أوكرانيا تلك الدولة المتوسطة، معركة بمفهوم الحروب الاستراتيجية، حرباً محدودة الأثر، وقابلة للتحكم فيها في أضيق حدود، بل إن تمددها بات يشمل نطاقات اقتصادية وصناعية وزراعية، ألقت ظلالها على العالم، خاصة العالم الثالث ومنظوماته البنيوية الهشة. ووضعت أزمة الحرب الروسية الأوكرانية ما يعرف بالنظام العالمي، أمام اختبار صعب بين تفوق القوة وشرعية المعايير الدولية التي تتبناها نظمه التقليدية، لمنع استخدامها بما يهدد السلم والأمن الدوليين. المخاوف من روسيا البوتينية، كانت دائما محل اهتمام في الدوائر الغربية، وهي في نظرهم في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي لم تشكل استقراراً سياسياً مأمولاً، ينتهي إلى بلد ديمقراطي على نمط ليبرالية الغرب وذلك لأسباب عدة يجملها الساسة الغربيون، في أن روسيا لا تستطيع الفكاك من إرثها التاريخي كقوة إمبريالية، لا تتخلـى عن طموحاتها الدولية. والسبب الثاني الذي يجعل الكثيرين يتشككون في روسيا أكثر من الصين، لأن الأولـى لديها أجندة خارجية واضحة. النخب الروسية تشعر بالحنق إزاء حقبة التسعينيات، فقد رأوا في فترة الديمقراطية أن روسيا كانت فيها ضعيفة ومهانة. كما أنهم يعتقدون أن الولايات المتحدة ودول حلف الناتو لا تريدان لها ديمقراطية، ولكنهما تريدان إضعافها، وتحقيق مزايا اقتصادية وسياسية تحصلان عليها بينما البلد يستنزف. الغرب لا يكتفي بضم حلفاء حلف وارسو مثل بولندا والمجر وغيرهما، بل يستخدم الديمقراطية للتدخل في مجال تأثير روسيا التاريخي ومنها أوكرانيا. روسيا الآن تعود قوية مرة أخرى والغرب غير راض؛ ولكن من خلال القوة والمواجهة فقط، يمكنه حماية مصالحه، وربما يفسر هذا الدعم الغربي المحموم لأوكرانيا، دعماً لوجستيا، من دون تدخل مباشر خشية المواجهة النووية.
يشكك الكثيرون في وجود نظام عالمي عادل، إذا كانت معادلة النظام العالمي لا تعني إلا القوى العظمى، ووجودها الحيوي الذي يفرض سياساتها على الدول المنضوية تحت مظلة مؤسسات النظام العالمي، من أمم متحدة ومؤسسات اقتصادية وقانونية ذات طبيعة وأهمية دولية، صممت لمجابهة مرحلة الحرب الباردة، وبات دورها الآن مشكوكا فيه. وعلى الرغم من التحولات الاستراتيجية الهائلة التي أحدثتها التكنولوجيا وبروز دول جديدة إلى المشهد الدولي؛ ظلت النظم المؤسسية التي تسير النظام العالمي فاعلة بحجة المحافظة على ميزان قوى ثابت. هل راهن الغرب على ما انتهت إليه صيغة النظام العالمي بين قوى عسكرية متفوقة، ومؤسسات دولية توجهها مصالحه، مكونا بذلك قوى مهيمنة راسخة، وقوى أخرى صاعدة تخالفه في الأسس والتوجهات السياسية. وعليه لم تعد العوامل التي شكلت ملامح النظام العالمي فاعلة في الحفاظ على التوازن من أسلحة نووية وصعود قوى اقتصادية خارج النطاق التقليدي للنظام العالمي ومصالح جيوسياسية، تتجاوز حدود خريطة العالم ومبادئه في العدالة وشرعية مؤسساته، التي تعتمد على المانحين الأساسيين، وهو ما يعني حرفياً دول المنظومة الغربية الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، في الأموال والقوات والمساعدات الفنية وغيرها من عوامل تضمن وجودها، ثم إن مجلس الأمن الذراع القانونية المفوضة في الحق في استخدام القوة، التي تخول المادة 51 حق استخدام القوة في الدفاع عن النفس، لا يتم إلا من خلاله، وعادة ما تخضع قرارات المجلس الى اعتراضات حق استخدام (الفيتو) وهو بيد الدول المتحكمة في النظام العالمي. إذن فالمأزق الذي يواجهه النظام العالمي الحالي، إنه أمام تحد لم تعد تجدي معه تصورات النظم التي أسست لخريطته الاستراتيجية في الماضي. وإذا كان النظام العالمي بين الدول تفرضه السياسة الواقعية، أو سياسة الأمر الواقع التي تدخل القوة العسكرية في تعريفه والتعامل معه، فإن عالم اليوم بما يشهده من تحديات في التغير المناخي والكوارث البيئية وشبح الأسلحة النووية وانتشار جماعات مسلحة خارج حدود مظلة الدولة؛ يدخل منعطفاً خطيراً في مسار حرج قد لا تكون العودة إلى نسخته القديمة ممكنة.
كاتب سوداني
انهار الإتحاد السوفياتي فتخلى العالم الحر عن حذره وانطلقت العولمة وأكبر مستفيد شعوب روسيا والصين وتركهم الغرب يسرحون بدوله وفتح أسواقه وجامعاته لهم ونقل لهم رساميل وتقنية وصناعة متطورة لدمجهم بنظام عالمي بمظلة قانون دولي واحترام سيادة الدول ولكن لم يمر عقدين ليدرك العالم الحر أن شعوب روسيا والصين لن يسمح لها إنتاج أنظمة حكم تندمج بنظام عالمي فعادت روسيا والصين لتجاهل قانون دولي وانتهاك سيادة دول مجاورة وثرواتها والسعي لحكم الكوكب فعادت أوروبا وشرق آسيا تحت حماية أمريكا وعادت لمحاصرة روسيا والصين