بعد انتشار خبر اختفاء الروائي الجزائري الفرنسي بوعلام صنصال في مطار الجزائر الدولي، وتحرك الأوساط السياسية والإعلامية الفرنسية بقوة دفاعا عنه، أجريت نوعا من الاستبيان بين جزائريين من حولي.. أصدقاء، زملاء، أقارب. سألت 18 شخصا من الجنسين ومن مختلف الأعمار والمستويات والتوجهات: هل تعرف بوعلام صنصال؟ هل قرأت له أي نص؟
فكانت الردود واحدا فقط قرأ بعضا من رواياته، 9 قالوا إنهم يعرفون أنه روائي لكن لم يقرأوا له حرفا، ثم الباقون لم يسمعوا اسمه قط قبل أن أسألهم عنه.
لم تفاجئني الردود. أنا شخصيا حاولت قراءة رواية «قسم البرابرة» غداة صدورها في صيف 1999 لكنني وجدتها ثقيلة ومنفِّرة جدا، فأهملتها منذ ذلك الوقت ولا أعرف أين هي الآن. لم أستغرب الردود لأنني أعرف سلفا أن صنصال روائي مغمور بلا شعبية وبلا أيّ تأثير أدبي. هو بالأحرى روائي نخبوي يكتب بلغة لم تعد الأولى ولا لغة الشعب في الجزائر، الفرنسية، ويتناول موضوعات مثيرة للجدل بين الجزائريين بأسلوب يتعمد فيه الاستفزاز. لو استمعت لبعض من مقابلاته مع وسائل الإعلام الفرنسية، ستشعر بسهولة بأن صنصال لا يكتب للجزائريين ولا يخاطبهم، ولا يهتم برأيهم فيه أو في أدبه. منذ اليوم الأول وضع فرنسا نصب عينيه، لكنه لم يفلح في اختراق قلاعها الأدبية برغم أنه أصر على إنتاج البضاعة التي تحبها النخب الفرنسية ورضيَ بأن يكون من سجناء الجنة الثقافية الفرنسية. رغم أنه محظوظ منذ البداية بوجود سوقين مختلفين في متناول يديه، الفرنسية والجزائرية، نجح صنصال في إضاعتهما معا فظلَّ انتشاره محدودا في فرنسا وأقرب إلى منعدم في الجزائر.
ورغم الموضوعات التي يتناولها صنصال ورواياته، بكل ما فيها من حدّة وتطرف وحتى تطاول على الجزائر، لم يستدعِ الأمر مضايقته أو اعتقاله، وإلا لكانت الجزائر اعتقلته منذ سنوات وهو يقضي فيها من الوقت أكثر مما يقضي في فرنسا التي منحته جنسيتها هذا العام بقرار من الرئيس ماكرون. لقد ذهب الرجل إلى حد ربط أبطال ثورة التحرير بالجنود النازيين في روايته «مذكرات الإخوان شيللر» الصادرة في 2008، ورغم ذلك لم يتعرّض لأي مضايقة في الجزائر.
لهذا من المهم أن يبحث أصدقاء صنصال الفرنسيون عن أسباب اعتقاله في الجزائر بعيدا عن أعماله الثقافية والأدبية، أو مواقفه السياسية غير الموجودة أصلا. يجب البحث عن أسباب أخرى.
في الثالث من الشهر الماضي انتشرت لصنصال مقابلة صحافية صوتية قال فيها كلاما عن المغرب والجزائر يثير بهجة عتاة حزب الاستقلال المغربي في قبورهم. مما قال: المغرب «إمبراطورية قائمة بذاتها منذ 1200 سنة واحتلت كل شمال إفريقيا». قال إن فرنسا احتلت الجزائر لأنها «مجرد شيء» ولم تحتل المغرب لأنه «كان دولة والدول لا تُحتَل». قال إن مناطق واسعة من الغرب الجزائري، تضم تلمسان ووهران وحتى معسكر، كانت «أجزاء من المغرب ثم اقتطعتها فرنسا». وقال إن قادة ثورة التحرير الجزائرية طلبوا من سلطان المغرب «إيواء قواعدهم ومساعدتهم ماليا وعسكريا ودبلوماسيا مقابل وعد بإعادة الأراضي التي اقتطعتها فرنسا، لكن هؤلاء القادة تنكروا للاتفاق» بعد استقلال الجزائر.
في عالم مثالي، يجب التعاطف مع صنصال والدعوة لعدم الزج بحالته في مستنقع العلاقات الجزائرية الفرنسية المأزومة، ولرفض استعماله ورقة ضغط أو مساومة من كلا العاصمتين
من الواضح أن صاحب هذا الكلام يبحث عن إرضاء مستمعيه المغاربة واستفزاز الجزائريين. أصلا لماذا كل هذا التطرف في موضوع ملغوم كفيل بإشعال حروب بين دولتين جارتين؟
أن يسافر صنصال إلى الجزائر بعد أقل من شهرين من تلفظه بمثل هذا الكلام، الذي يُعتبر كفرا بالمقاييس الجزائرية، يعني أنه لم يفهم بوصلة الحكم في «الجزائر الجديدة». أو أنه فهمها وتعمّد السفر باحثا عن واقعة (اعتقال) تمنحه مجدا دوليا لم تحققه له رواياته وصفته الأدبية. سيكون من المفيد لو يشرح صنصال للناس يوما ما ماذا كان يتوقع من سفره للجزائر فورا بعد ذلك الكلام.
لسوء حظ صنصال أن الفرنسيين الذين هبّوا للدفاع عنه أسوأ منه. باستثناء بعض المثقفين الصادقين والذين تعاطفوا معه من حيث المبدأ، الآخرون لا يُشرّفون أحدا.. مارين لوبان، إيريك زمور، كزافييه دريانكور، برنار هنري ليفي وغيرهم. رد فعلهم يكشف مدى سطحية الذهنية السياسية الفرنسية. نشأنا في الجزائر نعتقد ألا أحد في العالم يفهم عقلية نظام الحكم الجزائري مثل فرنسا. اتضح بعد واقعة صنصال أن فرنسا لم تفهم شيئا من ذهنية الذين يحكمون الجزائر، ولو كانت فعلا تفهم لامتنعت عن التعاطي مع الحدث بالطريقة التي فعلت. يكفي أن المتعاطفين مع صنصال، الذين استعملوا لغة فوقية آمرة للمطالبة بالإفراج عنه، هم أشد اليمينيين العنصريين حقدا على الجزائر، لتمتنع الجهات الفاعلة في الجزائر عن الإفراج عنه. وطريقة تدخل ماكرون تدفع لإطالة مدة بقاء صنصال في السجن. لو فهم هؤلاء الناس عناد و«تغنانت» الجزائريين لتصرفوا بشكل أفضل وأقل غرورا وأفادوا رجلهم بدل من الإضرار به.
لقد فاتهم أن فرنسا (وغيرها من «الديمقراطيات» الغربية) لن تفيد الرجل في مأزقه لأنهم لم يستوعبوا أن زمن الضغط الغربي وفرض الإملاءات على دول الجنوب ولّى، لأن الغرب فقدَ نفوذه الأخلاقي ولم يعد في مكانة تسمح له بتلقين من يعتبرهم ديكتاتوريين ومتخلفين دروسا في الديمقراطية وفنون الحكم. تناسوا أن هذا الغرب يمكن لأيّ طغمة حاكمة في نهاية الكرة الأرضية أن تشتريه بصفقة نفط رخيصة أو خردة سلاح ليصبح شريكا في جرائمها.
ربما لا لوم على السياسيين والحزبيين ووسائل الإعلام في فرنسا في طريقة تناولها لموضوع صنصال، لكن ماذا عن الرئيس ماكرون؟ ماكرون كشف أنه لا يختلف عن اليمينيين الشعبويين. لو كان يفهم الجزائر لاتصل وديا بالرئيس تبون وأقنعه بالتوصل إلى صيغة تحفظ ماء وجه الطرفين ومعهما صنصال. وغالبا كان سيصل إلى نتيجة. لكنه اختار سلك طريق لوبان وزمور وغيرهما، وهو طريق مؤذٍ قد يدفع ثمنه صنصال وحده.
في عالم مثالي، يجب التعاطف مع صنصال والدعوة لعدم الزج بحالته في مستنقع العلاقات الجزائرية الفرنسية المأزومة، ولرفض استعماله ورقة ضغط أو مساومة من كلا العاصمتين. لكن بما أننا في عالم أعوج، من الصعب أن يجد الرجل جزائريين كثرا يتعاطفون معه في محنته لأنه في الأساس أقصى الجزائريين من قائمة اهتماماته.
كاتب صحافي جزائري