كثيرا ما تواجه أسر الجالية الجزائرية في بريطانيا صعوبات في إقناع صغارها، الذين رأوا نور الحياة في البيئة الجديدة، وتعودوا على نمط حياتها المختلف، بالسفر إلى الأوطان أثناء العطلة الصيفية. يتذرَّع كثير منهم، لاسيما الكبار، بنقص مرافق الترفيه والتسلية، وقلة وسائل النقل العمومية، واكتظاظ الطرقات، وصعوبة التنقل فيها. كانت هذه حال ابنتي التي فضلت هذه الصائفة السفر إلى جنوب فرنسا. وبعد أيام قليلة من وصولنا إلى الجزائر، وفي اتصال هاتفي، فاجأتنا برغبتها الالتحاق بنا في الجزائر، بعد أن سمعت أن نجم الراب الجزائري عبد الرؤوف دراجي، المعروف فنيا باسم سولكينغ، صاحب أغنية «الحرية» الشهيرة، على وشك إحياء أول حفل له في العاصمة الجزائرية. وازدادت رغبةً وإثارة بعدما أكد لها زميل لها في الدراسة في لندن، من أب جزائري وأم أسكوتلندية، إمكانية اقتناء التذاكر في أوروبا، وكان هو أيضا يتحرق رغبة في حضور الحفل في وطنه الثاني، لأول مرة في حياته.
فوضى المرور
وفي يوم الخميس 22 أغسطس/آب، موعد إحياء الحفل الذي طال انتظاره، انتقلنا إلى ملعب 20 أوت بالتاكسي. وشاءت الصدف أن يتزامن ذلك اليوم مع إعلان نتائج امتحانات الشهادة العامة للتعليم الثانوي في بريطانيا (جي سي إس إي) وتحقيق ابنتي نتائج ممتازة فاقت في بعض المواد كل التوقعات. فكان الحفل الليلة أفضل جائزة وأجمل هدية.
عند اقترابنا من شارع محمد بلوزداد المؤدي إلى الملعب، في حدود السابعة والربع مساء تفاجأنا بأجواء غير عادية. بدا الشارع مزدحما، وحركة المرور شبه متوقفة مع انتشار مكثف للوحدات الأمنية. بدت العاصمة الجزائرية، وسط تلك الأجواء، وكأنها في حالة طوارئ أثارت ذكريات من الماضي الدموي الأليم. استحضرت ذاكرتي بغتة صورة لندن وهي تحتضن أكبر حفلات في العالم في أجواء طبيعية هادئة، فتساءلت لمَ تُقفَل شوارع العاصمة الجزائرية، وتشلُّ حركة المرور فيها، وتُنشَر فيها كل هذه الوحدات الأمنية؟ أتستحق زيارة مطرب مغترب كل هذه الإجراءات؟ ولماذا لا نرى مطلقا مثل هذه المظاهر في لندن، التي تعج أحياؤها بالمرافق الثقافية والفنية من مسارح ودور الأوبرا ومراكز الحفلات؟ ولماذا تسير الأمور دوما سيرا عاديا في لندن وكأن شيئا لم يكن رغم الإقبال المستمر لأشهر المطربين والفنانين في العالم، وتوافد آلاف العشاق والمعجبين، وتدفق أكثر من عشرين مليون سائحا سنويا؟ شوارع لندن لم تقفل ولم تتوقف عجلة الحياة فيها عندما أحيت فرقة (كوين) الشهيرة حفلها في حديقة هايد بارك رغم حضور 180 ألف شخص! ولم تتوقف الحياة في جزيرة وايت في أكبر حفل في تاريخ بريطانيا حضره 600 ألف شخص! وما لبثتُ أن صحوت من غفوتي على وقع صوت سائق التاكسي ينصحنا بالخروج من السيارة والسير في اتجاه الملعب: «المكان لم يعد بعيدا. ربما خمس دقائق سيرا على الأقدام. مثلما تشاهدون حركة المرور شبه متوقفة والعاصمة في فوضى».
فوضى بيع التذاكر
الفوضى لم تقتصر على الطريق وحركة المرور وحسب، بل امتدت إلى الأرصفة التي كانت تغص بالمارة حتى أنّ بعضهم، لشدة الزحام، تدفق على الطريق ليسير بين السيارات المتوقفة. ولم تسلم الأرصفة من الدرجات النارية التي حاول بعضها اختصار المسافة، وتفادي الطريق المزدحم بالسير على الأرصفة المخصصة للمارة، منتهكا قوانين المرور حتى في حضور عناصر الأمن الكثيرة. الفوضى لم تطبع حركة المرور وتنقُّل المارة وحسب، بل أيضا عمليات بيع التذاكر. فقد أشارت وسائل الإعلام الجزائرية إلى استشراء فوضى عارمة أمام مقر الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق وسط العاصمة الذي كان يتولى بيع التذاكر بسعر 1500 دينار جزائري للتذكرة الواحدة. وأمام سوء التنظيم وقلة المراقبة، انتهز تجار السوق السوداء الفرصة لإعادة بيع التذاكر بأسعار تجاوزت 5000 دينار جزائري!
اقتناء التذكرة في بريطانيا يعني بالضرورة حضور الحفل. لكن المعادلة تختلف في الجزائر، حيث أن الحصول على تذكرة لا يعني شيئا وقد يعود المرء أدراجه خائب الأمل.
«تدافع منى» النسخة الجزائرية
كنا نشاهد هؤلاء التجار، يقفون هنا وهناك، على طول الطريق الذي سلكناه مشيا انطلاقا من معهد بالستور إلى غاية الملعب. جل هؤلاء التجار أطفال وشباب لا تتجاوز أعمارهم العشرين، يقتربون من المارة بكل حرية ليعرضوا عليهم التذاكر بأسعار مختلفة.
اقتربنا من المكان أخيرا، فوجدنا أنفسنا وسط حشود غفيرة تتدافع في اتجاه مجهول يقولون إنه مدخل الملعب. رأينا فتاة تعود أدراجها، تصيح والرعب يملأ عينيها «لا تذهبوا إلى هناك! الموت في انتظاركم هناك!» قالت ذلك وهي تشير إلى مدخل المركز. حاولنا الانتظار قليلا، لعل الأمور تهدأ وتتحسن فنستطيع التقدم نحو الأمام والدخول، لكن التدافع كان شديدا والأجواء خانقة. فلم نجد بداً من الاستسلام والانسحاب. ولم يكن ذلك هينا على الإطلاق. كان علينا أن نصارع ضد التيار فنشق طريقنا في الاتجاه المعاكس، بين حشود متراصة مصممة على المضي نحو الأمام وحضور الحفل مهما كان الثمن. شققنا طريقنا إلى الخارج أخيرا ونحن نكاد نختنق لنجد أنفسنا بين مئات الأشخاص يشتركون جميعا في امتلاك تذاكر ولا يعرفون الدخول لحضور الحفل، ولا يجدون أحدا من المنظمين للاستعلام! نساء ورجال وأطفال أبرياء تعلو وجوههم علامات الخيبة والحسرة والحيرة، غير قادرين على استيعاب كيف انهم لا يستطيعون دخول حفل وهم يملكون تذاكر!
وانطلق الحفل وعمت الأفراح أرجاء الملعب وتعالت الأنغام والأهازيج، ولاحت الأضواء الملونة المتحركة في الأفق من خلف الأسوار العالية. أما خارجه، وعلى عكس ذلك تماما، خيّمت أجواء كئيبة بائسة بلغنا فيها خبر امتلاء المركز على آخره وبالتالي قفل أبواب الملعب! وتساءل الحاضرون كيف يحدث ذلك وأصحاب مئات التذاكر ينتظرون في الخارج؟!
دراما بدلاً من التسلية
مئات الأشخاص توافدوا من مدن ومناطق بعيدة للاستمتاع بمشاهدة سولكينغ وحفله البهيج، وإذا بهم يشاهدون صراعا مريعا البقاء فيه للأقوى، ويشاهدون أبشع صور الدراما في قلب العاصمة الجزائرية وبالقرب من أبرز معالمها.. مشاهد مأساوية لجرحى مطروحين على الأرض لا يجدون من يسعفهم عدا أشخاص متطوعين من بين الجماهير يستخدمون وسائل بسيطة مثل الماء والعطر، وبعضهم ينزع ثيابه ليقدمه للجريح. بعض أعوان الأمن تحولوا أيضا من رجال أمن إلى رجال إسعاف، فراحوا يسحبون النساء والأطفال المصابين إلى أعلى العربات الأمنية لإعانتهم على استعادة الوعي والتنفس.
في هذه الظروف التقينا زميل ابنتي القادم هو أيضا من بريطانيا. بدا منهكا محبطا هو الآخر. سألته ابنتي بالإنكليزية «ماذا نفعل إذن؟» فهزَّ كتفيه وقال وقد لاحت في وجهه ابتسامة باهتة «لست أدري». فاقترحت أن نبتعد عن المكان ونذهب إلى محل قريب للاستراحة وتناول مثلجات قبل الانصراف. كان آخر الجرحى رجلا مصاب بداء السكري فقد وعيه فحمله خارج الحشود أشخاصٌ. انتظرنا إلى أن استفاق قبل أن نغادر المكان.
اقتناء التذكرة لا يعني الدخول!
اقتناء التذكرة في بريطانيا يعني بالضرورة حضور الحفل. لكن المعادلة تختلف في الجزائر، حيث أن الحصول على تذكرة لا يعني شيئا وقد يعود المرء أدراجه خائب الأمل.
هكذا كانت حال مئات الأشخاص الذين اجتهدوا لأيام، بل أسابيع للحصول على تذاكر دخول الحفل.. اضطر بعضهم للوقوف في طوابير طويلة لساعات طويلة.. واضطر بعضهم إلى دفع أرقام خيالية في سوق سوداء انتعشت وسط الفوضى وسوء التيسير.
واضطر بعضهم إلى قطع مسافات بعيدة. كان بين الحاضرين مواطنون من بجاية وتيزي وزو وعنابة ووهران وأقصى أنحاء البلاد. وكان بينهم مغتربون من بلدان مثل فرنسا وإنكلترا وتونس.
سولكينغ اللامبالاة
في تلك الليلة بلغتنا حصيلة المأساة عبر وسائل إعلام جزائرية وأجنبية، وإن اتفقت بشأن عدد القتلى (خمسة أشخاص)، فقد اختلفت في عدد الجرحى (4 حسب الجزيرة نت، و21 حسب فرانس 24). الإصابات هذه لا تعكس بأي حال من الأحوال ما شاهدناه على أرضية الواقع. فكثير من الجرحى تلقوا الإسعاف على أيدي الجماهير في غياب رجال الإسعاف وسيارات الإسعاف، وهي حالات لم تُحْصَ. وانتهى الحفل منذ ساعات طويلة وانتشر خبر الكارثة ولم يعبر سولكينغ عن تعازيه لتلك الأرواح، ولا عن تعاطفه مع أسر الضحايا، ولا عن أسفه على هذه الفوضى التي طبعت أول حفل له في الجزائر، إلاَّ مساء اليوم التالي حيث أنكر أن يكون قد علم بالتدافع رغم كل الفوضى والصخب والأجواء غير الطبيعية المحيطة بحفله.. رد الفعل السريع لم يكن من سولكينغ، وإنما من الحكومة، حيث قدمت وزيرة الثقافة، مريم مرداسي استقالتها أو لعلها أقيلت من منصبها، مثلما تناقلت وسائل إعلام عقب أحداث التدافع وسوء التنظيم. وهكذا سيقرن أول حفل يحييه سولكينغ في الجزائر في سجل التاريخ بسوء التنظيم والفوضى والذعر والموت والدموع ومئات الأشخاص الذين حرموا من الدخول رغم امتلاكهم تذاكر. ويبقى التساؤل لماذا لم تفتح الأبواب في ساعات مبكرة للسماح للجماهير بأخذ أماكنها، بدون الحاجة إلى التدافع؟ فقد أكد كثير من الحاضرين أنهم وصلوا قبل ساعات طويلة ولم تفتح لهم الأبواب. وما سبب غياب أعوان الخدمة لتقديم معلومات وإرشادات للزبائن؟ وما سبب غياب رجال الإسعاف حتى يقوم بذلك رجال أمن أو مواطنون غير مؤهلين، ولا يملكون المعدات الضرورية للقيام بذلك؟ وماذا سيكون رد فعل سولكينغ بعد هذه الأحداث المأساوية؟ هل ستطاوعه نفسه للعودة للغناء في الجزائر مجددا، على الأقل على المدى القريب أم أنه سيمتنع تنديدا بالفوضى وسوء التنظيم وسقوط أرواح من محبيه؟
٭ كاتب جزائري بريطانيا
الحفلات كما تعرف أستاذ مولود في الغرب حيث تعيش لها منظميها العارفين بالتنظيم كصنعة، وليس كارتجال، ومن هنا تبدأ المأساة، ولعلك نطقت بمقال العارف خين تساءلت حول عدم فتح
الأبواب منذ ساعات مبكرة حتى يمنع التدافع؟ إذا المنطق يحتّم أمرا آخر قريب من التنظيم وهو احترام الإنسان كقيمة. إنّ الأمور ليست على ما يرام، فحفل كهذا يتسبّب في إزهاق أرواح، يعني أنّ للمتعة ثمن باهظ، ولهذا السؤال الضمني الذي يطرحه مقالك هو هل سيعزف المواطن عن هكذا حفلات ويطلب السلامة، أم سيلعب لعبة الحياة والموت أمام حالة هي أساسا من مستلزمات المتعة؟ لماذا تغلق الشواع؟ لأنّنا أصلا نعتبر في أذهاننا أن أي تجمع هو بالضرورة مدعاة لحالة الطوارئ، ذلك أن الفرح فردي وليس جماعي، فالأفراد مكتفون بذواتهم داخل أسوار أحياءهم ومدنهم وتجمعاتهم، أما الفرح الجماعي فهو حالة طارئة..
شكرا جزيلا على هذا المقال الذي هو من قلب الحدث… وبالتوفيق لابنتكم النجيبة…
تحياتي أستاذ مولود.
شكرا جزيلاً حضرة الأديب الناقد عبد الحفيظ بن جلولي. المقال من مركز الحدث وهو بذلك شاهد على العصر يعرض وصفا دقيقا للظروف بتنظيم هذا الحفل ورحلتنا إلى مركز الحفل وحضورنا التدافع الذي فاق كل التوقعات وصراعنا لأجل الخروج من الزحام والتدافع سالمين. يشارك في أحداث هذه القصة الواقعية المنشورة في المقال شاب بريطاني من أب جزائري وأم اسكتلندية تنقل إلى الجزائر وهو يحترق رغبة في حضور الحفل لأول مرة في وطنه الثاني، فكانت خيبة أمله كبيرة. ورغم حصولنا جميعا على تذاكر إلاَّ أننا لم نتمكن من الدخول وهو ما لا يمكن أن يحصل ابدا في بريطانيا. لست أدري كيف سيكون رد الجماهير على ذلك، لكن من جهتي، أعدك أنها ستكون آخر مرة أحضر فيها حفل أو أي تظاهرة ثقافية /فنية/رياضية في الجزائر. لكني سأحضر مثل هذه الأحداث في بريطانيا حيث لا نرى أبدا مثل هذه المظاهر، ولم تسجل بريطانيا مثل هذه الفوضى في تاريخها الطويل.. حتى عندما حضر 600 ألف شخص حفل جزيرة وايت، لم تسجل اي أحداث. كل المودة والاحترام والتقدير
نحن لا نعاني ازمة تنظيم بل نعاني ازمة اخلاق حادة