إن الشتاء الاسلامي الذي يغرق الشرق الاوسط منذ أكثر من سنتين والذبح المتبادل بين التطرف الشيعي والتطرف السني يجعلان رؤيا الشرق الاوسط الجديد عند شمعون بيرس في ضوء اشكالي. وكذلك ليس التذكير الذي حصلنا عليه أمس باطلاق القذائف الصاروخية على ايلات، ليس تحققا لحلمه بالضبط. في هجوم مقابلاته الصحفية مع وسائل الاعلام احتفاءا بيوم الاستقلال، عرّف بيرس الربيع العربي بأنه ثورة الجيل الشاب على الجيل السابق. وفسر فشل رؤيا الشرق الاوسط الجديد بأن اسحق شمير لم يقبل اتفاق لندن، لكن مشكلة رؤيا الشرق الاوسط الجديد لم تكن عدم واقعيتها فقط بل كان الفشل الرئيس كامنا في جوهر الرؤيا نفسها. فقد تحدثت الرؤيا عن سلام وليس في هذا أي سوء، بالعكس. إن السلام هو توق ويستحق السعي اليه والبحث عنه برغم أن الواقع لا يعطينا اسبابا لنكون متفائلين. لكن رؤيا بيرس تجاوزت السلام كثيرا، فقد تحدث عن الطمس على الحدود والطمس على الثقافات والطمس على الهويات، ولم يكن ذلك دفعة واحدة لكنه بيّن أننا في المرحلة الاولى نحتاج الى حدود ‘ليّنة’ لا الى حدود صارمة مسدودة… ولا نحتاج الى الانطواء وراء أسوار كانت ترمي أصلا الى تقوية السيادة القومية لكل طرف… ولا نحتاج الى تدريع السيادة ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين بل الى تقوية البُعد الانساني’. واقترح الرئيس بيرس تحويل بنية الدول في الشرق الاوسط الى اتحاد كونفدرالي. وفي فصله ‘عالم الغد’ احتقر المجموع القومي: ‘لن يكون المجموع القومي أو الطبقي هو غاية الانتظام الاجتماعي بل الفرد… إن الجيل القادم سيكون أكثر اعتمادا على الطراز الآسيوي للسياسة القومية التي مصادرها عالم القيم الاقتصادي’. رفض العالم العربي الرؤيا ورآها للسيطرة على الشرق الاوسط. وكل ما حدث في الشرق الاوسط منذ ذلك الحين الى اليوم دحض كل توقعاته. لكن اليوم وقد أصبحنا في ‘الغد’ الذي كتب عنه وأصبحنا ‘الجيل القادم’، يتقدم بيرس الى الأمام. فقد روّج لرؤياه الجديدة المتعلقة بخفوت الدولة التي لا تعرف كيف تعتني بحاجات العصر وتحدياته، وقيادة الاتحادات الاعمالية الدولية للعالم الجديد وهي التي ستحل محل الدول القديمة. شهدنا في الـ 200 سنة الاخيرة غير قليل من الرؤى الكوسموبوليتية من الرومانسية الليبرالية في اوروبا في القرن التاسع عشر، الى ثورة النازية والرؤيا الماركسية التي دعت عمال العالم الى الاتحاد ثم الى ‘نهاية التاريخ’ مع سقوط الاتحاد السوفييتي والكتلة السوفييتية. ولم تصمد أية واحدة من هذه الرؤى لامتحان التاريخ. لكن في حين نبعت تلك الافكار من المثالية والحلم بمجتمع أفضل، تقوم عولمة الاتحادات على العجل الذهبي ـ على الطمع واجلال الثروة والأثرياء. اعتاد بيرس قبل سنين ان يكرر مرة بعد اخرى شعار ان الشباب في العالم كلـه يلبسون سراويل الجينز نفسها ويأكلون الماكدونالدز نفسه باعتبار ذلك رؤيا مباركة. لكن جعل القاسم المشترك السطحي لهذه الصورة الخارجية رؤيا الغد للبشرية قد يفضي الى محو ثقافات والى تسطيح البشر وتغليب الفلوتوقراطية وسلطة الأثرياء على العالم كله واستغلال السكان من اجل طمع أرباب المال الذين يسيطرون على اتحادات الشركات. وينبغي ان نأمل ألا يُغرى مواطنو اسرائيل بسحر العجل الذهبي العولمي البراق.