انتهى قبل ما يقارب الاسبوعين؛ مؤتمر النقب الذي ترأسه رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي؛ وضم دولا عربية هي، مصر، الإمارات، البحرين والمغرب، وبمشاركة وزير الخارجية الأمريكية. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن هذا المؤتمر سبقه مؤتمران؛ في العقبة وفي شرم الشيخ؛ شاركت في الأول، مصر والإمارات والأردن والعراق والسلطة الفلسطينية، وفي الثاني مصر والإمارات والأردن والعراق. تمخض عن مؤتمر النقب، حسبما أعلن بعد انتهاء أعماله؛ تشكيل حلف عربي إسرائيلي في مواجهة إيران، على أن يعقد دوريا في كل عام، في إحدى هذه الدول.
يبرز بصورة جلية؛ السؤال التالي: هل مؤتمر التطبيعيين هذا، بديل عن مؤتمرات القمة العربية، أم أنه بديل عن الجامعة العربية؟ هذا المؤتمر وما نتج عنه، من وجهة نظري؛ هو أخطر مؤتمر على القضية الفلسطينية، وعلى الوطن العربي. ربما يرفض الكثيرون استخدام مفردة، أو مصطلح المؤامرة، لكنني أؤكد أن كل ما يجري وما سيجري وما جرى في السابق؛ كان لا يخلو من المؤامرة، بل إن المؤامرة هي الدافع والمحرك، لهذه الأحداث والتطورات في أرض خصبة وملائمة لها، أو أعدت لها مسبقا. القوى العظمى وأدواتها في المنطقة العربية، لم تزل تشجع أي تحَول في المنطقة العربية وفي جوارها، حتى إن تقاطع هذا التحَول في لحظة صيرورته، معها أو مع وجودها، أي أنه يؤثر في مصالحها، لا مصالح أدواتها. هنا أقصد تحَولا بزاوية 180 درجة، أي تحَولا كاملا وتاما. هذا التحَول الاستراتيجي من الناحية الثانية، وهي الأخطر والأهم؛ سوف ينتج لاحقا، وقد أنتج فعلا، بعد عدة سنوات، أو بعد ثلاثة عقود؛ أوضاعا وسياسات تتلاقى أهدافها مع غايات المشروع الأمريكي الإسرائيلي، مع أن هذا التحَول، لجهة الحقيقة والواقع، معاد تماما للمشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة العربية وأيضا في جوارها. إنما في المقابل؛ أنتج تحولات وتغييرات؛ تولدت بنتيجة التحَول الاستراتيجي الأساس هذا، الذي أشرنا إليه. الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي، وربما القوى الغربية الاخرى؛ تعرف تماما؛ مآلات هذا التحَول.. الذي أدى من بين ما أدى إليه؛ أن تندفع بقوة في المشهد السياسي وعلى سطح الأحداث، وفي القنوات الخفية تحت سطح تلك الأحداث، والمحركة لهذه الأحداث تدافعا وتزاحما، واشتباكا وصراعا؛ الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية، ولا أقول الهوية القومية والإسلامية الجامعة التي تراجعت كثيرا بفعل تلك الصراعات التي لا تلوح حتى اللحظة في الأفق المنظور، نهاية لها. من وجهة نظري، هذا هو ما حصل في المنطقة العربية منذ أربعة عقود أو أكثر قليلا؛ حتى صارت المنطقة العربية وجوارها على ما هي عليه في الوقت الحاضر؛ من تشظٍ واضطراب وحروب أهلية ودمار وتمزيق للنسيج المجتمعي فيها، وضياع بوصلة الطريق الذي يقود إلى الاستقرار وتثبيت كيانات الدول العربية التي عصف بها (الربيع العربي). في خضم هذا الارتباك والاضطراب، وتمزيق كيانات الدول العربية؛ أصبحت الساحة العربية فارغة من التأثير الفاعل لقوى التغيير المنظمة، التي تحوز مشروعا واضحا ومحدد الملامح والطريق والأهداف، إنما لا تستند إلى كتلة مجتمعية صلبة، متواشجة علائقيا مع المشروع المعادي أو المعارض للمشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة العربية، مع أن هذه القوى بمشاريعها تمثل تمثيلا حيا؛ مصالح الناس في مجتمعاتها، ومتقاطعة بمنطلقاتها النظرية كليا مع التحَول الاستراتيجي آنف الذكر. للغرابة أن هذه المجتمعات مبتعدة عنها.. وما أقصده؛ ليس عدم وجود قوى معارضة للمشروع الأمريكي الإسرائيلي، ما أقصده تحديدا؛ أن هذا القوى موجودة على أرض الواقع، لكنها؛ معلقة في الفراغ، وتدور حول ذاتها بلا عون جماهيري، فالجماهير بعيدة عنها وهي أيضا بعيدة عن جماهيرها؛ وبمعنى أكثر دقة ووضوحا؛ هناك منطقة فراغ بينها وبين الجماهير التي في الجل الأعظم منها، ترفض التطبيع المجاني مع الكيان الإسرائيلي. فهذه القوى، أولا لم تقم في العقود الأربعة المنصرمة بتجسير العلاقة بينها وبين الناس، بخطاب سياسي عقلاني وواقعي؛ يتناول ما تعانيه الشعوب العربية من ظلم واضطهاد واستبداد من قبل النظام الرسمي العربي. من الجهة الثانية وهي ترتبط عمليا بالأولى؛ ظلت هذه القوى واقفة، وقفة قلقة غير متوازنة، وهي تخاطب الناس من على قمة جبل تنظيراتها الأيديولوجية، لم تنزل إلى الازقة والدروب الخلفية التي تتجسد فيها، وإلى الآن هموم الناس وما هم فيه من فقر وجهل وظلم وتهميش؛ كي يعكس خطابها روح الشعوب وحاجاتها للعيش والحياة والتنمية والتطور، وبالنتيجة تعميق الوعي الجماهيري، ما قاد إلى توسيع دوائر الفراغ بينها وبين الجماهير. ثالثا؛ صحيح أن أغلبها رفع شعارات مناوئة للأنظمة العربية، لكنها شعارات، اعتمدت على السردية المثالية، مع عدم القراءة العميقة؛ للتحولات الدولية والإقليمية الكبرى، والتحَول الاستراتيجي في المنطقة العربية وفي جوارها، من بداية ثمانينيات القرن السابق، مرورا بتسعينيات القرن المنصرم حتى هذه اللحظة، وهي لحظة تاريخية ومفصلية؛ ربما كبيرة جدا؛ تكاد تلغي نفسها، عندما تُفعل جديا وبحسم، كما هو جار، حركة الزمن عناصر التغيير في الواقع الدولي والإقليمي في صيرورة جديدة قديمة؛ لسوف يتغير فيها العالم تغيرا كاملا وجذريا، ولو بعد حين.
مؤتمر النقب؛ إحياء مخادع لصفقة القرن، تحت لافتة مواجهة إيران، بينما الحقيقة هي تمييع القضية الفلسطينية بطريقة أو بأخرى
في العودة إلى مؤتمر النقب سيئ الصيت والهدف، والأخطر على فلسطين وعلى الوطن العربي. يجري الحديث باستمرار أن أمريكا في صدد ترك المنطقة العربية، للتفرغ لصراعها مع الصين وروسيا في الركن الثاني من المعمورة، هذه الفرضية ليست كاذبة فقط، بل إنها لعبة من ألاعيب الغرب وعلى وجه التحديد؛ الولايات المتحدة. أمريكا لا ولم ولن تغادر المنطقة العربية، لا الآن ولا في المستقبل، إلا إذا تراجعت قوتها وانحسرت مناطق نفوذها، بطريقة حادة جدا، وهذا الأمر غير وارد على الأقل في الأمد المنظور. لا أقصد أن أمريكا لن تتراجع، بل العكس هو الصحيح؛ أمريكا مع كل يوم يمضي، تواصل التراجع، لكنه يظل تراجعا في الحدود التي تستمر فيها كأحد أقطاب التوازن الدولي، الذي بدأ في لحظة التاريخ هذه؛ يخط له مسارات على أرض الواقع الدولي. هناك فرق كبير بين التراجع الحاد أي التراجع إلى الحافة التي تقود إلى التصفير، أي تصفير هيمنتها، والتراجع في الحدود التي أشرت لها، إنما من الجانب الثاني، فأمريكا في صدد إعادة تشكيل التحالفات، وأيضا إعادة تشكيل ورسم الخريطة السياسية في المنطقة العربية وفي جوارها، والبداية في هذا الاتجاه هو التحالف (العربي) الإسرائيلي. المنطقة العربية وما فيها من ثروات ومواقع استراتيجية؛ تقع في قلب صراع القوى العظمى الثلاث؛ أمريكا وروسيا والصين، وليس خارج هذا الصراع. هذا المؤتمر المؤامرة هو وفي جميع الأحوال؛ إحياء مخادع لصفقة القرن، تحت لافتة مواجهة إيران، بينما الحقيقة هي تمييع القضية الفلسطينية بطريقة أو بأخرى. هذا المؤتمر ليس لمواجهة إيران، كما يقول إعلام هذه الدول، بل هو تأسيس لاستراتيجية جديدة، ذات أبعاد بعيدة المدى جدا، وليس لمعالجة أوضاع آنية، أو بمعنى آخر؛ إنه أي هذا المؤتمر هو تأسيس استباقي لتحولات مقبلة.. امريكا والكيان الإسرائيلي؛ يتعاملان تكتيكيا مع إيران الثورة، إيران الحاضر. لكنهما في الوقت ذاته يتعاملان استراتيجيا مع إيران المستقبل.. حسب قراءتهم لتطورات الحاضر. واللتان تعملان على فتح المسارات لهذه التطورات، هما الإمارات ومصر، اللتان تشكلان قطبي الرحى في إنضاج وبلورة أعمال هذا المؤتمر بالتعاون مع أمريكا والكيان الإسرائيلي؛ الذي لم يعلن أو لم يكشف عما دار في أروقته، فقط إنه لمواجهة التحدي الإيراني، واعتباره مؤسسة تعقد اجتماعاتها الدورية سنويا.. في وقت يقترب فيه إبرام الصفقة النووية بين إيران وأمريكا، والذي سبقته مقدمات حلول أو إنها في الطريق إلى وضع حلول لها، أي للحروب والنزاعات والصراعات في اليمن وفي سوريا وفي لبنان، وفي غير هذه الدول العربية. هناك أيضا مقدمات اخرى سبقت ابرام الصفقة النووية، علما أن هذه المقدمات لا يمكن عزلها عن مفاوضات إعادة العمل بالصفقة النووية بين إيران وأمريكا، بل إنها جزء من الصفقة من دون الإعلان عنها باتفاق الطرفين الأمريكي والإيراني. هذا يعني وبكل وضوح هناك خطة ما لتهدئة الأوضاع في المنطقة، تمهيدا لحلحلتها، بمشاركة إيران جديا ولو من وراء الباب.. (والتي هي وفي الوقت عينه، وللحق الذي يجب أن يقال؛ تدعم بقوة المقاومة الفلسطينية) بما يتناقض ظرفيا بما جاء به المؤتمر (العربي) الإسرائيلي، أي ان هذا المؤتمر لا يعالج أوضاعا ظرفية، تم تأسيسه لغاياتها، بل لغايات مستقبلية، لمعالجة تحول مستقبلي.. حسب المخطط الأمريكي الإسرائيلي، والذي تلعب فيه، مصر والإمارات، دورا مركزيا في التنفيذ.. لكن في المقابل: هل هناك قدرة عملية في تحويل هذا المخطط المؤامرة إلى واقع على الارض؟ الإجابة حصلنا عليها من الأحداث الأخيرة في القدس والمسجد الاقصى، ومن البطولات لشبان فلسطين، وأيضا من الرفض العربي أي رفض الشعوب العربية لكل عمليات التطبيع المجاني مع هذا الكيان العنصري المجرم.
كاتب عراقي