كان تطوراً لافتاً وربما مفاجئاً في خطاب رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني أنها توجهت باللوم إلى الغرب، الذي أعطى غالباً «الانطباع بأنه مهتم بتلقين الدروس أكثر من مدّ يد العون» كما قالت في خطاب افتتاح «مؤتمر روما للهجرة والتنمية» الذي احتضنته العاصمة الإيطالية مؤخراً. ذلك لأن صعود ميلوني وحزبها كان قد نهض أساساً على نهج يميني متشدد ضد الهجرة واللجوء، ولكنها اليوم أكثر ميلاً إلى تحميل الغرب مسؤولية «الغطرسة» إزاء البحث عن حلول لعشرات الآلاف من اللاجئين الذين يتدفقون إلى حدود أوروبا الجنوبية، من بلدان أفريقية وعبر سواحل تونس وليبيا خصوصاً.
ويُقال عادة إن الخطابات والوعود التي يعلنها الساسة خلال الحملات الانتخابية لا تُلزم إلا أولئك الذين يصدّقونها، لأنها عموماً لا تتبدّل كثيراً بعد تولي السلطة فحسب، بل يحدث أحياناً أن تنقلب إلى النقيض. ولم يشذّ سلوك ميلوني عن هذه القاعدة، سواء خلال التحضيرات لمؤتمر روما أو عند زيارة تونس والمشاركة مع الاتحاد الأوروبي في عقد صفقة مع الرئيس التونسي تحيل البلد إلى حارس لباحات أوروبا الخلفية في وجه موجات الهجرة الأفريقية. كذلك كان البيان الختامي لمؤتمر روما أقرب إلى احتشاد النوايا الحسنة والآمال العريضة منه إلى منصة فعلية ملموسة تتيح تحويل التوصيات إلى واقع فعلي على الأرض، أو في عرض البحار تحديداً.
صحيح أن المؤتمر استقبل 20 دولة مطلة على البحر المتوسط أو تنتمي جغرافياً إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي في شخص رئيسة المفوضية ورئيس المجلس، والاتحاد الأفريقي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الأوروبي للاستثمار وبرنامج التنمية التابع للأمم المتحدة، وجهات أخرى مختلفة. وصحيح أن التوصيات دارت حول تحسين التعاون بين الدول الأوروبية والأفريقية، وتوفير أشكال من التمويل لدول انطلاق اللاجئين، ومكافحة شبكات تهريب البشر عبر البحار، والوعد بتنظيم مؤتمر قريب للمانحين حول الهجرة.
لكن الأصح في المقابل هو الحقائق الكبرى الصلبة التي تقف وراء تعاظم موجات الهجرة نحو الدول الغنية في أوروبا بصفة خاصة، والتي تتصل أولاً بسوء توزيع ثروات الأرض بين شمال وجنوب، وسوء تسخيرها لخدمة الإنسان بين مراكز مصابة بالتخمة وأخرى يتضور الملايين فيها جوعاً، إضافة إلى الاختلال البنيوي العميق في توازن الحدود الدنيا على صعيد الاقتصاد الكوني، وهيمنة أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية، وبؤر الحروب والصراعات المسلحة والمجاعات والأوبئة. والدرس الجوهري الأكبر بصدد اللجوء يفيد ببساطة أن الآدمي لا يخاطر بحياته ويلقي بنفسه إلى التهلكة وجشع المهربين ومخاطر المجهول إذا لم يكن قد بلغ في بلده الأمّ ذروة يأس قصوى تجاه مستقبله وأفراد عائلته بمعنى لقمة العيش والصحة والحياة الكريمة، أو إذا لم يُهجّر قسراً لأسباب شتى.
ولقد شهد مؤتمر روما الكثير من النوايا الحسنة والخطب العصماء، وتخشى منظمات حقوق الإنسان الدولية ألا يشمل التنفيذ الفعلي سوى تلك الإجراءات الزجرية وتضييق الخناق على اللاجئين، وتجريم فرق الإنقاذ، ومضاعفة الصفقات الثنائية مع أنظمة الانطلاق والعبور حيث الفساد والاستبداد.