مؤتمر «قصيدة النثر المصرية»: عن معيار الشعر وفلسفة الشاعر

محمد عبد الرحيم
حجم الخط
0

القاهرة ـ «القدس العربي»: أقيمت فعاليات الدورة الثامنة من «مؤتمر قصيدة النثر المصرية» في الفترة من 17 وحتى 19 من الشهر الجاري، متضمنة عدة لقاءات شعرية، ودراسات نقدية، كذلك تكريم كل من الشاعرين فريد أبو سعدة وجمال القصاص، هذا التكريم الذي جاء تحت عنوان (قليل من المحبة). وفي الأخير إصدار الكتاب السادس من (أنطولوجيا قصيدة النثر المصرية) كتوثيق للمناخ الشعري ولنماذج متباينة وأجيال مختلفة من الشعراء المصريين. وبعيداً عن كلمات الضيوف والمساهمين في الاحتفائيات، نستعرض بعض ما جاء في الدراسات النقدية التي رافقت المؤتمر، ربما تكون جديرة بإلقاء الضوء على قضايا الشعر المصري وأصواته الجديدة..

القصيدة النثرية بين الإنكار والإقرار

تحت هذا العنوان يكتب الناقد مجدي نصار بحثه المستفيض حول الفعل الشعري في قصيدة النثر، موضحاً في البداية مفارقة المُسمى.. لطالما تساءلنا: كيف تقترن «القصيدة/الشعر» بـ«النثر»؛ كيف يقترن الشيء بنقيضِه؟ ومن الجليَّ أن انغماس النقد ـ لقرون متتالية ـ في الفصل القاطع بين الشعر والنثر كجنسين أدبيين هو ما أدى بنا إلى هذا السجال الطويل. حتى بعدما تجلى «النص» كمفهوم جامع وشامل ومتجاوز لنظرية الأجناس الأدبية، ومبرر للنوع الأدبي استعانته بتقنيات واستراتيجيات من نوع آخر، تجد البعض، ناقدا وأديبا، منشغلا لا يزال بالسؤال ذاته!

المعيار الشعري

لا يكفي الجمع بين الأجناس في فضاء نصي واحد لتمايز القصيد النثري كمنتج أدبي، أو تميزه كمنتج شعري، بل يبقى المعيار هو: ما السمة الغالبة على هذا النص، هل هي النثر أم الشعر؟ بمعنى آخر: من يمثِّل الحاكم لغيره، هل يطغى النثر على الشعر فيكون المنتج نثرا في نهائيته؟ أم يتفوق الشعر ليصبح لدينا شعرا «قصيدة» بحق؟ لذا علينا أن نبحث في النصوص النثر- شعرية أو الشعر- نثرية التي بين أيدينا. بمعنى أن يكون المعيار والسؤال: هل يتفوق الشعر في النصوص أم لا؟ بذلك، يصبح السؤال عن التسمية بلا جدوى حقيقية، ويصير السؤال الأولى بالطرح: هل هناك ما يمنح النص شعريته؟

شعرية المضمون

الشعرية لا تتوافر في الشكل بقدر ما تتوافر في المضمون، أي أنها داخلية أكثر منها خارجية، قابعة بين طيات النص أكثر منها مغلِّفة للنص من الخارج. ولطالما كان الداعي الأول لتجريد (القصيدة النثرية) من حقها الشعري وحقيقتها الشعرية هو افتقادها للمعايير الشعرية الشكلية ـ القديمة والراسخة ـ التي تأسست قبل خروج النص على الجنس شكليا وضمنيا، وقبل تجاوز الأدب لمفهوم النوع. وإن استمرارنا في الحكم على الشعرية بالأدوات نفسها الخارجية والشكلانية القديمة لا يمثل ظلما للقصيدة النثرية وحدها، بل يتجاوز ذلك ليعد نسفا كاملا لمفهوم النص وجمالياته، وتراجعا كبيرا في إنتاج الأدب وتذوقه ونقده.

الإيقاع

يكمن الشعر في الإيقاع أكثر مما يتوارى خلف الأوزان والقوافي العروضية، يكمن في الموسيقى الداخلية أكثر من الغنائية الخارجية، ولو أن الغنائية تصنع وحدها الشعر، لكان كل كلام موزون شعرا خالصا وحقيقيا، وهو ما نفاه الأقدمون والمعاصرون على السواء. فقد ربط أرسطو الشعر بالمحاكاة، سواء كان بلغة منظومة أو منثورة، أي أنه خرج على حصر الشعر في الشكل والموسيقى الخارجية.

التجربة الذاتية

ولأجل الوصول للبلاغة اليومية والجسدانية والواقعية، تتجلى التجربة الذاتية في الشعر وتتجسد الذات الشاعرة بصور مختلفة داخل القصيدة، لتشكل الثنائية المعروفة: ثنائية الذات والعالم (الذات والموضوع/الذات والآخر/الخاص والعام) فيصبح للذات دور فاعل في العالم، وليس منفعلا كما كان يحدث في الشعر القديم، وتحقق التجربة فرادتها بحضور الذات الشاعرة كرد فعل على العالم، وليس كمجرد شاهد على هذا العالم. كما يصبح الشعر علاقة بين الذات والعالم، من خلال تجربة شعورية تمثلها الصور (الشعرية).

الشاعر جمال القصاص

السرد الشعري

الشاعر هنا يُخضِع هذا السرد للقصيدة، أي أنه لا يسرد سردا نثريا إنما يسرد سردا شعريا له سمات مغايرة للسرد المعتاد. أي يصبح السرد الشعري انطباعا (ذاتيا) عن الحكاية وليس مجرد سرد مغاير للحكاية. قد يستعين الشاعر ـ من أجل تلك المراوغة ـ بتقنيات سينمائية (كالمونتاج) تقنيات تحذف من الحكاية بعض عناصرها، وتترك أمام المتلقي فراغات كثيرة يملؤها بنفسه، وتحقق بذلك فكرة (العوالم الممكنة) (المتخيلة) التي هي أحد أهم عناصر الشعرية في القصيد.
يقول الشاعر فتحي عبد السميع في قصيدة (عيد الحب):
«في عيدِ الحبِّ لم ألتقِ إلا بقاتلٍ
يَفكُّ بندقيتَه ويَغسلها بالزيتِ والقَسوَة
يُطهِّرُ الفوَّهَةَ مِنَ الصرخاتِ
والزنادَ مِن تَطَفُّلِ الندم.
لا يَنسَى أبداً
فَراشةً غافلتْه في ليلةٍ كهذِه
ونامتْ في فِراشِ طَلقَة.
كادَ يَخسَر صِيتَه
حين ضَغَطَ على الزِّنَادِ فانْطَلَقتْ فَرَاشة
ابتَسَمَ القتيل لرفرفةٍ قبَّلتْه في الظلام
وعَبَرَ الكَمينَ بقلبٍ سَليم».
من ديوان (الموتى يقفزون من النافذة).

السرد السريالي

وفي بعض الأحيان ينزع السرد نزوعا سريالياً، يتسم بالهذيان والشطح السريالي، ويتداخل فيه الوعي مع اللاوعي، والواقعي مع الفانتازي والسردي مع البصري، كل ذلك يحدث بهدف الخروج بالسرد عن طبيعته النثرية إلى طبيعة شعرية خاصة وذاتية، ترتد إلى قصدية الشاعر وتقوم على تجربته وتخدم في الوقت ذاته تلك التجربة. وهذا السرد الشعري يتمحور حول التجربة أكثر مما يبدو منشغلا بنقلها، ويتعاطى مع الذات ويومياتها ومذكراتها واعترافاتها وخباياها، ومع الأشياء المهمشة والمنسية في العالم، أكثر مما يتعاطى مع الأفكار والقيم والمثل.
يقول الشاعر أسامة حداد:
«في العشاء وجد رؤوسا آدمية فوق أطباقه!
ظل يصرخ:
هنا أنبياء فسدة وملائكة هاربون من سماء مزعجة»
من ديوان (العشوائي).

الماهية وقصيدة النثر

قدمت الناقدة هبة رجب شرف الدين، ورقتها البحثية بعنوان «سرديات الماهية في قصيدة النثر المعاصرة.. بين المرجعية والتخييل الذهني» موضحة بعض النقاط، نذكر منها.. إن التعريف بماهية الشيء في سياق قصيدة النثر، يأتي محملا بالمعاني الذهنية والعاطفية؛ ذلك لأن الشعر في أصله قائم على التصور الخاص لماهية الشيء، والإعراب عن كنهه بمجازات تعريفية لخصائصه، سواء كانت هذه الخصائص جوهرية، أو كانت عرضية.. كما يوحي مصطلح سرديات الماهية، بأن الشاعر يشكِّل مفهوما ما، ويقدمه بشكل سردي يجذب المتلقي؛ لذا تُمكِّن سرديات الماهية الشاعر في قصيدة النثر من عرض المعرفة الخاصة به، والشعور الفردي بالأشياء من حوله؛ ما يكشف عن نوعية الخلفية الوجدانية للشاعر من جهة، وعن فلسفته تجاه الشيء من جهة أخرى.. فالشاعر قد يأخذ موقع الفيلسوف في تعريفه لماهية الأشياء، ومعالجة المفاهيم العامة بمنظور فلسفي شاعري؛ بما يصنع ما يشابه القصص التي نحيا بها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية