العديد من الافتراضات التي أثرت في التفكير في العلاقات الدولية في حقبة ما بعد الحرب الباردة قلبت الأمور رأسا على عقب. مع تزايد توتر علاقات واشنطن مع موسكو وبكين، مقابل تقارب روسيا والصين، واشتراكهما في العداء للنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. من الطبيعي حينها أن يفسح النظام العالمي المتحوّل الطريق لمزيج متنوّع من النزعة القومية الحمائية، ولمجالات النفوذ والمشاريع الإقليمية للقوى الكبرى. فالأعراض المرضية للنظام الليبرالي الغربي يقابلها النشاط المتزايد للقوى الصاعدة، بالمحصلة، ثمة الكثير مما لا يمكن التنبؤ به، لكن الأكيد أنّ العالم يشهد مرحلة تحوّل غير مسبوقة.
مخرجات مؤتمر ميونيخ للأمن شبيهة بقمّة الناتو التي حدثت في قاعدة رامشتاين الجوية في ألمانيا، حيث وافق حلف الناتو في تلك القمة، على الموقف الرسمي للولايات المتحدة الذي ينص على أنه من الضروري إضعاف روسيا لأكبر حد ممكن، لكيلا يكون بإمكانها القيام بالمزيد من الأعمال الواسعة النطاق. ووافق قادة الاتحاد الأوروبي، على ذلك بشكل يدعو للاستغراب على امتداد تفاصيل هذه الحرب المتواصلة. فهم رغم تخوّفهم من الحرب في أوكرانيا، ومن تداعياتها الكارثية على الأمن والاقتصاد الأوروبيين منذ بدايتها، إلا أنهم انجرّوا خلف واشنطن ولندن، ولم يجرؤوا على الاعتراض. بالأمس القريب، أمسك جورج دبليو بوش بيد توني بلير، وأدارا ظهرهما للعالم، وقادا حربا دمرت الدولة العراقية بحجة كاذبة وملفّقة. ولم يكن الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك قادرا على مواصلة القطيعة مع بوش الابن، وسرعان ما سعى جاهدا إلى مصالحته. واليوم، ليس هناك من تفسير لإيقاف العمل بمشروع خط الغاز نورد ستريم 2 بعد جهد كبير بُذل لتنفيذه، وكلفة مادية وصلت إلى أحد عشر مليار دولار أمريكي، والمستفيد الأكبر من هذا المشروع كانت ألمانيا ومن ثم دول الاتحاد.
الأعراض المرضية للنظام الليبرالي الغربي يقابلها النشاط المتزايد للقوى الصاعدة، وثمة الكثير مما لا يمكن التنبؤ به، والأكيد أنّ العالم يشهد مرحلة تحوّل
التفسير الوحيد هو أنّ ألمانيا ما بعد أنغيلا ميركل، رضخت لمطالب أمريكا وإملاءاتها بإيقاف العمل بالمشروع. وعِوض أن تحظى ألمانيا وأوروبا بميزة تفاضلية وبسعر أرخص للغاز، انساقت وراء واشنطن، وأصبحت تعاني أزمات الطاقة والتضخم والغلاء، وهي في مواجهة الغضب والاحتجاجات الجماهيرية المتصاعدة. إذا فكرنا في ذلك بشكل جيد، فيعني ذلك أنه من الضروري إضعاف روسيا بشكل أكثر مما عملته اتفاقية فيرساي عام 1919 بألمانيا. مثل هذه القمم المتواترة، تحتاج كما قدّر تشومسكي، إلى تقويض قوة روسيا إلى حد لن يسمح لها بإجراء مفاوضات والقيام بعمل دبلوماسي، رغم أنّ المفكر الأمريكي كان من أوّل الداعين إلى أنّ أي تسوية ينبغي أن توفر «خطة هروب» من نوع ما للرئيس الروسي، والجميع يعرف ما هي هذه الخطة. هي تسوية تضمن بقاء أوكرانيا دولة محايدة، ومخرجا دبلوماسيا ما لتجميد وضع دونباس وشبه جزيرة القرم من أجل مناقشته في مرحلة لاحقة، ووقف إطلاق النار، وانسحاب القوات الروسية. هذا أساسا هو إطار التسوية الممكن، وكما يعرف الطرفان، فهذان هما الخياران الوحيدان المتاحان. أتاح ظهور الأحادية القطبية في أعقاب الحرب الباردة للغرب المنتصر مع الولايات المتحدة أخذ زمام القيادة لبداية بناء نظام دولي ليبرالي حقيقي. كان الأمل في أن يتصرّف باعتباره خادما من أجل عالم يسوده السلام والازدهار. هذا النظام الذي بنته الولايات المتحدة وحلفاؤها، لم يكن دوليا ولا ليبراليا، كان نظاما محدودا غايته الأساسية شنّ منافسة أمنية ضدّ نظام محدود منافس مهيمَنٌ عليه من طرف الاتحاد السوفييتي. على هذا النحو، فإنّ النظام الدولي الصاعد سوف يلعب حسب ميرشايمر، دورا محوريا في إدارة العلاقات الاقتصادية بين البلدان عبر العالم، رغم أنّ للصين مصلحة عميقة راسخة في مساعدة النظام على تسهيل التعاون الاقتصادي، فإنّها ستمارس قوتّها المتنامية لإعادة تشكيل النظام الدولي الجديد وفقا لمصالحها. وسوف تسعى لإعادة كتابة القواعد في المؤسّسات الاقتصادية الراهنة للنظام، لإعطائها نفوذا أكبر، كما أنّها ستخلق مؤسّسات جديدة تعكس قوتّها المتنامية. أحد أبرز الأمثلة لهذه المقاربة الأخيرة هو إرساء بكين للبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية سنة 2015، الذّي يراه بعض المراقبين باعتباره المنافس المحتمل لكلٍّ من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. أمّا مبادرة الصين عالية الطموح «حزام واحد، طريق واحد»، التي تمّ إطلاقها سنة 2013، فلم يتّم تصميمها لمساعدة بكين في استمرار نموها الاقتصادي المثير للإعجاب وحسب، بل أيضا لأجل تصدير القوة الصينية العسكرية والسياسية عبر أنحاء العالم. من ناحية أخرى، فإن التزام الصين بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الافريقية، والعمل على عقد الشراكات التي تقوم على التعاون والاحترام المتبادل كان موضع ترحيب من القادة الأفارقة. الرئيس الكيني أوهورو كينياتا عبّر عن ذلك بوضوح عندما قال «إن الشراكة الصينية الافريقية تصب في مصلحة الجانبين، وفكرة أن الصين تهتم فقط بالموارد الطبيعية لافريقيا هي فكرة مغلوطة، ماذا كان يفعل المستعمرون؟ كانوا ينهبون، وها هي الصين تعمل معنا لإخراج البلدان من الفقر. إنها ليست مستعمرا، بل هي شريك». بالمنطق الاقتصادي إذن، الصين تعرض المنح والمساعدات دون شروط مسبقة، فهي تعقد صفقات تجارية، حيث تشتري النفط والمواد الخام مقابل تطوير البنية التحتية المتهالكة. وهي لا تتدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة افريقية، ولم تكن إمبراطورية استعمارية تعيش على نهب الثروات والمتاجرة بالبشر، وتدمير البلدان وتفكيك نسيجها الاجتماعي كما فعل المستعمر الغربي.
في مقابلة له، قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن: إن ترك روسيا تفعل ما تفعله سيعني أننا نعود إلى عالم يكون فيه الأقوى على حق، وحيث يمكن أن تتنمر الدول الكبرى على الصغرى». كانت تدور في ذهنه في ما يبدو، أزمة ذلك «النظام القائم على القواعد»، الذي استُبدل بانعدام القانون، حيث الإجراءات الشرعية المعمول بها في وضع القانون الدولي تتمّ على أساس أحادي الجانب، وهذا الأمر تواصل لسنين. وبالتالي اتّضح بشكل مبكر من هو الذي يرفض القيم الدولية التقليدية للاستقرار القانوني، وتقليص دور القانون الدولي في العلاقات الدولية، ومن قادت سلوكياته الانتهازية والاستعمارية أيضا إلى تقويض أساسيات القانون الدولي الحديث المستند إلى ميثاق الأمم المتحدة. ما أدّى بدوره، على نحو حتمي إلى عدم الاستقرار القانوني العالمي، وزاد بشكل كبير من مخاطر الحرب العالمية الثالثة. التي يعزّز من احتمالات وقوعها أنّ الحروب تقوم على مبدأ الصراع بين عقيدتين مختلفتين، وعلى استراتيجية المصالح المختلفة، والمتقاربة لكل من الدولتين المتواجهتين، وهما أساسا في هذا السياق، القوة الصينية النامية التي تواجه القوة الأمريكية الموجودة أصلا، في مجال السياسة والاقتصاد والشؤون العسكرية. ناهيك من المواجهة الروسية الأطلسية ومآلاتها.
كاتب تونسي