يتم اختيار أمكنة انعقاد المؤتمرات الأمريكيَّة التي تأخذ الصِّفة الدَّوليَّة ويتم حجز المقاعد فيها وتصميم أسمائِها كي يتم إفعامَها بالدَّلالات التي تخدم المجهود الأمريكي إنْ لجهة التَّبشير بالسَّلام المُتَخيَّل وفق الرُّؤى والمصالح الأمريكيَّة، أو إنْ لجهة إعداد المناخ الدَّولي للحروب الأمريكيَّة المُزْمَع خوضها، سواءٌ منها الـباردة أو السـَّاخنة، العسكريَّة منها أوالاقتصاديَّة أو حتَّى الثَّقافيَّة؛ وفي هذا السِّياق جرى حَشْو الدَّعوة للمؤتمر وجرى حَشْو جدول أعماله بعبارات تلميحيَّة تتصل بالقضية الفلسطينيَّة وبأفكار صفقة القرن التي وعد كوشنير – صهر الرَّئيس الأمريكي – بإيضاح بعض منها؛ لكنَّه لم يفعل في النِّهاية.
ويتم عقد مثل هذه المؤتمرات جرياً على سياسة الولايات المتَّحدة ودبلوماسيِّتِها الخَشِنة والنَّاعمة التي تستهدف إخراج الأمم والدُّول من قواعِدها الذَاتيَّة التَّقليديَّة، تلك القواعد المتصلة والخاصَّة بالقضايا الحقيقيَّة والحيويَّة التي تعني تلك الدُّول في المستويات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة والتكنولوجيَّة والأمنية والتي من المُفترَض أنْ تمثِّل الأولويَّة في أجندات الدول المختلفة على مستوى سياساتها الدَّاخليَّة والخارجيَّة؛ فيجري إخراج العديد من الدول والشعوب والمجتمعات من تلك القواعد في سبيل توظيفها بهدف إمضاء إرادة الولايات المتَّحدة وتنفيذ خططها بعيدة المدى وتحقيق مصالِحِها بمنطق توظيف واستخدام أدوات وروافع السيطرة والهيمنة.
وتلك الأدوات والرَّوافع تتوزَّع بين اقتصاديَّة، كالشروط والإجراءَات التي تستهدف هيكلة وإعادة هيْكَلَة اقتصادات الدُّول النامية أو تلك التي بحاجة إلى مزيدٍ من النُّمو بما يتواءَم مع شروط إقراض المؤسسات الماليَّة الأمريكيَّة أو التي تخضع للهيمنة الأمريكيَّة كالبنك الدولي وصندوق النَّقد الدَّولي، وثمَّة أدوات ماليَّة باعتبار أنَّ الدُّولار إمبراطور ماليَّ مُتوَّج مُهيْمِن كونه معياراً أساسيَّاً لتحديد قيمة صرف العملات المحليَّة مقابل العملات الأجنبيَّة، وكذلك هناك أدوات وروافع أمنيَّة، كالحاجة للحماية الأمريكيَّة من قبل بعض الدُّول، وكذلك أدوات وروافع هيمنة تكنولوجيَّة، كالحاجة للتكنولوجيا الأمريكيَّة في المشاريع التي يجري تصميمها لتكون تحت رحمة تلك التكنولوجيا حصراً. ويأتي تصميم المؤتمرات الأمريكيَّة والدَّعوة لها كأحد مظاهر وتجلِّيات تلك الهيمنة هذا من جانب، وكإحدى وسائل التأكيد على التبعيَّة السِّياسيَّة للولايات المتِّحدة، وكإحدى المناسبات التي يجري فيها التأكيد على واقع إدامة الهيمنة الأمريكيَّة، وعلى أحقيَّة الولايات المتَّحدة في التَّحكُّم بمجريات السياسة الدَّوليَّة.
المعايير الأمريكية
ووفق المعايير الأمريكيَّة يتم اختيار أمكنة انعقاد تلك المؤتمرات، فما المغزى من اختيار العاصمة البولنديَّة وارسو، وتفضيلها على ما سواها من العواصم الأوروبيَّة لانعقاد المؤتمر تحت عنوان الأمن والسَّلام في الشرق الأوسط؛ علماً أنَّ بولندا لا تعنيها قضايا الشَّرق الأوسط كثيراً ؟ بل الَّذي يعنيها أكثر هو مستقبل العلاقة بينها وبين روسيا جارِها اللَّدود؛ ولذلك سارعت كي تكون عضواً كاملاً في حلف النَّاتو بعد انفراط عقد الاتحاد السُّوفييتي مباشرة. إنَّ ما كان يعني بولندا من هذا المؤتمر وبدرجة أساسيَّة هو ضمان إمضاء الوعود الأمريكيَّة ببناء وتثبيت قواعد عسكريَّة أمريكيَّة ضخمة في أراضيها تكون حائلاً أمام إمكانيَّة التلويح بالتَّدَخُّل العسكري الرُّوسي من قبل روسيا في أراضيها مستقبلاً؛ فالذَّاكرة البولنديَّة مُكتظَّة بتاريخ طويل من وقائع التَّدخُّل العسكري الرُّوسي في كثيرٍ من المراحل.
ثمَّ أنَّ اختيار وارسو الاسم القديم لحلف وارسو المناوئ لحلف النَّاتو إبَّان الحرب الباردة، عنواناً مُتَجَدِّداً في حُلَّةٍ أمريكيَّةٍ جديدة لبناءِ حلفٍ دوليٍّ عتيد يستهدف إعادة تعريف معاني الأمن والسَّلام الدَّولي، ويُعيد تعريف وتصنيف المخاطر والتَّحديات الاستراتيجيَّة ذات الأولويَّة القصوى، ويُعيدُ تسمية وتوصيف وتصنيف الأعداء الجُدد؛ وفق رؤية الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة بطبيعة الحال، وتِبْعاً لذلك، ووفق رؤية انسياقيَّة لمن هم أصلاً يقعون ضمن مروحة منظومتها الأمنيَّة والاقتصاديَّة، إنْ في أوروبا أو في منطقة الشَّرق الأوسط أو في جنوب شرق آسيا صولاً إلى اليابان، ومحيط بحر الصِّين. وقد كان رُبَّما لاختيار وارسو مقرَّاً لانعقاد أعمال المؤتمر دلالة رمزيَّة ورسالةً ضمنيَّة استهدفت قوىً دوليَّة أُخرى؛ ومنها روسيا ودول أوروبيَّة احتجَّت على خروج أمريكا من اتفاقيَّة الحد من انتشار الصواريخ الاستراتيجيَّة العابرة للقارات.
فهل أفلحت دبلوماسيَّة الولايات المتَّحدة التي قادها في المؤتمر كلٌّ من نائب الرَّئيس مايك بِنِسْ ووزير خارجيته مايك بومبيو وصهره كوشنير وصديقه الحميم نتنياهو بإقناع كل هؤلاء أنَّ التَّحدي الاستراتيجي الدَّولي الجديد وأنَّ الخطر على الأمن والسَّلام في منطقة الشَّرق الأوسط ومن ثمَّ على العالم تمثله إيران حصراً؛ وذلك بعد أنْ جرى أصلاً تصميم الدَّعوة لهذا المؤتمر تحت عنوان مواجهة الخطر الإيراني دوليَّاً وإقليميَّاً ؟!.
ربَّما يبدو ومن خلال ما اتّضَح من معطياتٍ ومن ثمَّ من نتائج على هامش انعقاد المؤتمر أنَّ الولايات المتَّحدة كانت بحاجة إلى إضافة ذرائع وعناصر وشعارات أُخرى لتسويغ الدَّوافع أمام الدُّول السِّتين المشاركة في المؤتمر – حيث كانت مشاركة بعضها مشاركة هزيلة وبعضها الآخر كانت مشاركته شكليَّة. ولأنَّ اختيار إيران كعنوان وحيد على جدول أعمال المؤتمر كان يعني فيما يعني استثارة وتعميق الانقسام الحاصل في الموقف بين كلٍّ من أوروبا وتحديداً ألمانيا وفرنسا من جانب وبين الولايات المتحدة من جانبٍ آخر حيال إيران وحيال تقييم انسحاب إدارة دونالد ترامب من الاتفاق النَّووي مع إيران في العالم الماضي؛ وكي لا يظهر هذا المؤتمر وكأنَّ وظيفته فقط هي تمرير التَّطبيع بين الدُّول العربيَّة وإسرائيل تحت عنوان مواجهة العدو المشترك الذي تمثله إيران وطموحاتها ومشاريعها في المنطقة وفق رؤية بعض الدُّول العربيَّة؛ ولكي لا يظهر وكأنَّه مؤتمرٌ إسرائيليٌّ بامتياز من حيث الدَّوافع والأسباب والأهداف فقد جرى إضافة بعض المواضيع إلى جدول أعماله الأصلي.
جدول الأعمال
فمنذ أنْ اسْتُكْمِلَتْ التَّحضيرات للمؤتمر وحتَّى يوم انعقاده في الرَّابع عشر من شهر شباط/فبراير الجاري؛ تمَّ تغيير جدول أعمال المؤتمر – قُبَيْلَ وأثناء انعقاده – ليتضمن عناوين ومواضيع تتصل بالحريات وحقوق الإنسان، وأخرى تتصل بالنشاطات التكنولوجيَّة غير المشروعة وبالهجمات الإلكترونيَّة وبحماية أنظمة المعلومات، وبالنشاطات المتصلة بانتشار الصواريخ البالستيَّة، وبمواجهة الإرهاب، وتم إقحام مواضيع أخرى على عَجَلٍ وبشكلٍ هامشيٍّ جداً كالحرب في سوريا والحرب على اليمن. وجرى الإشارة ولفت الانتباه لِماماً وبصورة هامشيَّة جدَّاً إلى قضايا صحيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة. لكن التَّركيز والاهتمام الأبرز بقي يُراوح ضمن منطقةِ ومَنْطِقِ توجيه أصابع الاتهام إلى إيران، وشحن عبارات اللَّوم لها بالتَّحذير حيناً وبالتَّهديدِ أحياناً؛ كونها هي المسؤولة عن حالة عدم الاستقرار والتَّهديدات لمستقبل منطقة الشَّرق الأوسط؛ الموعودة بالسَّلام الأمريكي الذي لم يتحقق طوال عقود مضت !.
لقد جرت محاولات مقارنة مؤتمر وارسو بكلٍّ من مؤتمر مدريد عام 1992 وبمؤتمر شرم الشِّيخ لمكافحة الإرهاب عام 1996. جرت المقارنة بينه وبين مؤتمر مدريد من حيث أوجه الشَّبه المتصلة بجلوس الوفود العربيَّة إلى جانب الوفد الإسرائيلي مباشرة في مؤتمر سلام ترعاه الولايات المتحدة – راعية الجميع – وكأنَّ ذلك يحمل دلالات دراماتيكيَّة، وهذه المقارنة تبدو عديمة الأهميَّة والقيمة؛ لأنَّ المستويات النَّامية والإجراءَات المُضَّطَرِدة للتَّطبيع التي أسس لها مؤتمر مدريد ومن ثمَّ عززت من فرصها تفاهمات أوسلو بين إسرائيل والفلسطينيين منذ عام 93 تدفع إلى الاعتقاد أنَّ هذه المقارنة تبدو شكليَّة ومُضَلَلة جداً؛ وهي إنْ خدَمت فإنَّما تخدم أغراض نتنياهو الدَّاخليَّة الانتخابيَّة.
ومقارنة هذا المؤتمر بمؤتمر مكافحة الإرهاب عام 96 أيضاً مُضَلِّلة؛ فهناك وفي ذلك المناخ من بداية المجهود التَّبشيري الأمريكي بالسَّلام وانفعال الكثير من العرب والفلسطينيين والقوى الأوروبيَّة بأفكار السلام التي بلورها – فضلاً عن الإطار العام لأفكار السلام الأمريكيَّة – مجموعة من السياسيين والأكاديميين الإسرائيليين مع بعض الفلسطينيين احتشد العالم تقريباً يقول لإسرائيل إطلُبي وتمنِّي ما تحتاجين من التَّضامن وما تحتاجين من المساعدات الاقتصاديَّة والتكنولوجيَّة – بمليارات الدُّولارات – في مواجهة ما تواجهين من تحدِّياتٍ أمنيَّة. فيما اليوم لا يرى معظم العالم أنَّ ذلك المناخ ما يزال قائماً أو أنَّ هناك ما يبرر التَّداعي لعقد مؤتمر دولي هدفه إنقاذ إسرائيل من مخاطر مُحدِقة؛ وقد يكون هناك صعوبة كبيرة الآن وعلى خلاف ما جرى عام 96 أمام الإدارة الأمركيَّة وأمام إسرائيل لجهة النجاح في التَّوظيف الأداتي والانفعالي والمالي لصالح المبررات التي يسوقها مسلسل القلق الإسرائيلي للاستفادة من جهات كثيرة في هذا العالم.
وربَّما حاول مايك بِنِس نائب الرَّئيس الأمريكي، والذي رعى المؤتمر، إفعام روح المؤتمر بتلك المعاني المتصلة بالتهديد الوجودي على إسرائيل بفعل التَّهديد الإيراني المزعوم؛ عندما ذَرَفَ الدُّموع أثناءَ زيارته لأحد معتقلات الإبادة النَّازيَّة بالقرب من وارسو في بولندا؛ حيث قال: « إنَّني وأنا أُشاهد ما جرى هنا على يَدِ الوحش النَّازي؛ أزدادُ إصراراً على ضرورة مواجهة إيران فهي لا تختلف بشيءٍ عن النَّازيين «. وفي هذا مثالٌ صارخٌ على سياق المنهج المتصل بمحاولة اختراع الأعداء وتضخيمِهِم وشَيْطَنَتِهم، بل واستبدالِ البعض بالبعض الآخر كلَّما أمَلَتْ الضَّرورة الأمريكيَّة ذلك.
وفيما كان بِنِسْ يقول ذلك في وارسو كان موشيه يعلون وزير الدِّفاع الإسرائيلي الأسبق، وأحد أقطاب المواجهة الانتخابيَّة المقبلة مع نتنياهو، وأحد من كانوا أكثر المتحمِّسين لشنِّ الحرب على الفلسطينيين وهو من كان أحد أبرز أصحاب ومُنَظِّري نظريَّة كَيِّ الوعي والإنهاك تجاه الفلسطينيين واللبنانيين، يقول في إسرائيل: « ليس هناك من حاجة لخوض أي حرب مع إيران، وإنَّ نتنياهو يُجازف بالدَّعوة لهذه الحرب وهو يوظِّف ذلك دعائِيَّاً داخليِّاً ودوليَّاً على نحوٍ خاطئ؛ إذْ ينبغي على إسرائيل الاعتماد على الولايات المتِّحدة في مواجهة إيران بوسائل الضُّغوط الدُّبلوماسيَّة والحصار والعقوبات الاقتصاديَّة فقط دون حروب «.
مع كلِّ ذلك؛ ربَّما أنَّ الجديد والمهم واللاَّفت في هذا المؤتمر هو أنَّه يأتي كإضافة منهجيَّة متواصلة في سياقِ مُراكمة المجهود الأمريكي الإسرائيلي لجهة استبدال الأعداء وإعادة ترتيب أولويَّات دول المنطقة؛ ومواصلة إخراجِ دولها ومجتمعاتها من قواعدها الذَّاتيَّة التَّقليديَّة. لكن ومع ذلك مرَّة أُخرى فربَّما يجري ذلك الآن في ظلِّ ظروفٍ دوليَّة وإقليميَّة مختلفة عمَّا مضى؛ فثمَّة إرهاصات تحوُّل مهمَّة ولافتة على صعيد معادلات علاقات القوَّة وتحوُّلات مضَّطَرِدة في مناخ التَّفرُّد الأمريكي التقليدي في مجريات ومستقبل السياسات الدولية على مستوى العالم، وفي مجريات ومستقبل السياسات الاقليميَّة على مستوى دول المنطقة؛ والمؤشِّرات على ذلك عديدة، وهذا هو الأهم.
كاتب فلسطيني
مقالة رائعة متقدمة في مستوى الصياغة والافكار والمعلومات السياسية الاستراتيجية وهي تعبر عن فهم شمولي لما يجري وتقدم للقاريء مادة مرجعية هامة ومفيدة بغض النظر عن مستوى القرار الذي يتمتع به القاريء ،