تبدأ الرواية من كلمة «ثم»، تلك الاستئنافية، مع أن لا حادثة سبقتها ولا كلمات خُطّت قبلها. «ثم التفت إليها المطران..» ذاك الذي انتصب واقفا، هكذا بغتة وكأنه من عدم، وحوله المرأة والرجل اللذان سيعلنهما من فوره زوجة وزوجا. لكن «ثم» تلك ستبقينا متعلّقين بها، إذ تستدرجنا إلى أن نفكّر أن تاريخا سابقا كان هناك، أن عالما كان قائما من قبل، وأن ما نحن فيه ليس إلا حلقة أخرى من حلقاته ستفتتح الآن.
ذاك أن العالم، لا غرو، لم يبدأ مع سيرون الأرمنية. فلكونه ابتدأ، مع حكايتها، في المجزرة الأرمنية التي قتلت جميع من كانت تعرفهم، واحدا واحدا وواحدة واحدة، فلا بد أنه سيكمل مسيرته التي بدأها مع الشقيقين الأولين، قايين وهابيل، كما تذكر الكاتبة في الصفحات التي جعلتها بمثابة خاتمة لروايتها. أما في الرواية، فنحن مع أربعة أجيال، أو خمسة إن احتسبنا مارين ونظار والديْ سيرون، أو حتى ستة إن أضاف ابنة جميلة، البطلة الأخيرة. لكن طالما أن البدء ينبغي أن يتعيّن بنقطة ما، ستكون سيرون هي تلك النقطة. هي الجدة الأولى التي لن تغيب حكايتها، ولن تقوى أي امرأة أخرى من أنسالها على أن تُنسي حضورها أو تضعفه.
دائما يرجعن إليها، هن حفيداتها، جدّة أولى مؤسِّسة لتاريخهن. هي الجذر، أو الجذع كما في رسم الشجرة التي تكتب على فروعها وورقاتها أسماء من تتالوا. ربما لأن زمنها، زمن المجزرة الأرمنية، كان الأقسى. هن، حفيداتها المتعاقبات، كان يمكن لهن، بنسب مختلفة بين واحدتهن والأخرى، عشن حروبا لكن أمكن لهن أن يُدخلن رغباتهن وخياراتهن إلى عيشهن، الذي لن تتحكم فيه الحروب وحدها. ستستطيع إحداهن مثلا أن تبقي على علاقتها بمن كانت تحبّه، إلى ما بعد زواجها من رجل آخر، بل وستختبر أخرى تجاوز المتّفق الأزلي القائل بأن من تعاشرهن النساء هن الرجال حسب. وليُزاد على ما أدت إليه إتاحةُ الخيارات، نقرأ عن الانفصام الذي أدى بـ»جميلة»، آخر النساء الأربع التي يروي الكتاب سيرتهن، إلى أن تفجر نفسها في واحدة من العمليات الانتحارية، وذلك بعد زواجها من مسؤول في تنظيم إسلامي متشدّد.
أي أنهن يتغيّرن مع تغيّر الزمن، لكنهن مع ذلك سيبقين محافظات على انتسابهن إلى ما هن منتسبات إليه. يتعلّق ذلك باشتداد الحروب التي يعشنها أو بتراخيها، تلك التي وضعت المؤلفة ثبتا لها في واحد من ملحقات الرواية الثلاثة أو الأربعة. كما يتعلق بالبلدان التي ستحملهن إليها هجراتهن من تركيا إلى سوريا إلى فلسطين فمروحين الجنوبية اللبنانية ثم الأشرفية فبرج حمود في بيروت، بالنظر إلى كون تلك المدينة باتت المستقر الأخير، حتى حينه، أو موضع آخر هجرات تلك السلالة… ثم إلى سوريا مجددا…
عندما اكتشفت كل الدماء المتنوعة التي تجري فيها عروقي، فهمت أخيرا سبب الحرب الدائرة، منذ تكويني، بيني وبيني. الحروب والهجرات هي الكنف المهيمن على عيشهن جميعا.
فالولايات المتحدة التي تبدّت في آخر الرواية، مع جيل النساء الأخير، كمكان سيصير وجهةّ لمن سيأتين بعد النساء الأربع أو الخمس. ثم، إضافة إلى الحروب والهجرات هناك الاختلاط بالآخرين الذي يفرضه خبط الحياة العشوائي، والذي تقول فيه الكاتبة: «عندما اكتشفت كل الدماء المتنوعة التي تجري فيها عروقي، فهمت أخيرا سبب الحرب الدائرة، منذ تكويني، بيني وبيني. الحروب والهجرات هي الكنف المهيمن على عيشهن جميعا. يبلغ ذلك حدّ أن يكون كل خروج عنه أقرب إلى تفاصيل يقتضيها عيشهن والظروف التي تحيط بهنّ. وكانت الكاتبة مدركة لمحورية موضوعيها هذين، وهي صاغت ذلك في الصفحات الأخيرة من الكتاب، تلك التي أعطتها عنوان «استطراد غير ضروري». في تلك الصفحات بدت كأنها تصوغ المعنى أو الحافز لكتابة هذه السير. أما في متن الرواية، أو في داخلها، فملفت إدراك «البطلات» لدواخل أنفسهن، أي أن واحدتهن، في ما تجري روايتها على لسانها، تروح تتكلم واصفة نفسها كما لو أن ذلك الكلام يجري على لسان آخر عارف.
وقد تُرك لكل من النساء الأربع اللواتي خُصّص لكل منهنّ فصل من الكتاب (وقد رُمز لكل واحدة منهن بواحدة من ملكات ورق اللعب الكوتشينة الأربع، ملكة الديناري لسيرون، ملكة الكبّة لابنتها وهكذا، مع مرفق وصفي لما يجمع كلا منهن بملكتها)… خُصّص للنساء الأربع إذن أن يروين حكايتهن بلسانهن، وأن يكون لهن، لكل منهن، فائض في التعبير عن المشاعر كتب بخط أكثر سماكة تمييزا له عن خط السرد.
الخط الزمني للرواية، المترافق مع حياة النساء الأربع، منذ أولاهن سيرون، يشمل حقبة تاريخية واسعة تبدأ من 1912، تاريخ ولادة سيرون، بل من قبل ذلك حيث ذكر تاريخ موجز لوالدي سيرون مارين ونظار (ولد في 1873) اللذين ماتا في الزمن الذي تشمله الرواية وليس قبله. أما خاتمتها فتدرك اللحظة الأخيرة من زمن تلك الجغرافيا، حيث تشارك إحدى بطلاتها بآخر مظاهر ذلك الجنون الدموي.
*رواية جمانة حداد «بنت الخياطة» صدرت عن دار «نوفل» في 252 صفحة- 2019.
٭ روائي لبناني