منذ تطور الأسلحة النارية، كماً ونوعاً، الذي تزامن مع صعود الإستعمار الغربي، دخلت البشرية أكثر عصورها قسوةً وظلاماً، فقد بدأ اجتياح قارات بأكملها وإبادة شعوب أو محاولة إبادتها، أو اقتلاعها من وطنها ومحاولة إلغاء ذاكرتها وتاريخها، وبموازاة هذه الجرائم الرهيبة تم تركيب شعوب وبلدان من تجمعات مهاجرين تجمعهم مشاعر مضطربة وأطماع ترتفع وتيرتها كلما نكّلوا بضحاياهم أكثر! حتى بدت العالم في بعض تلك الحقب وكأنه ورشة عمل حربية حيث كانت ثمة حروب عديدة تدور في مختلف القارات!
لنتذكر الهنود الحمر أو مأساة الشعب الفلسطيني أو شعب الزولو في جنوب أفريقيا، بل الشعوب الأفريقية عموماً وكيف بدأ أصطياد الأفارقة كما تُصطاد الحيوانات! إذ انتشرت ظاهرة العبودية مُتحولةً إلى ثقافة وأسواق ومشاريع لولاها لما كان بالإمكان رؤية هذا الإزدهار الذي ينعم به الغرب حيث يشير مؤرخون إلى ان العوائل والمؤسسات المالية والصناعية الأكثر نفوذاً وثراءً في الغرب قد جمعت ثرواتها من تجارة العبيد ومآسيهم الرهيبة!
لم تنته العبودية لأن بعض أصحاب الضمائر الحية طالب بذلك، بل المرجّح إن حاجة الأسواق الدولية للعبيد توقفت بحكم الأعداد الكبيرة التي جُلبت منهم فازداد العرض وقلَّ الطلب، ولذلك لم يعد ثمة مبرر لثقافة العبودية وتقاليدها المشينة، إذ تواصل ذلك مع مواقف وجهود الأمريكان السود التي تصاعدت مع منتصف القرن العشرين وساهمت بتحريم التمييز العنصري.
إنها ثقافة (الأسياد) الذين يعانون العبودية في قرارة أنفسهم أكثر من ضحاياهم، لأن ضحاياهم يكافحون من أجل الحرية أما هم فيواصلون الانحطاط جراء خضوعهم لغرائز الهيمنة والشراهة التي تحول الإنسان حيوناً مريضاً خطراً على نفسه وعلى الآخرين!
وعلى ذكر الثقافة، لنتذكر أيضاً أن الأنثروبولوجي : علم الإنسان. هو تاريخياً علم بريطاني تأسس في القرن الثامن عشر حيث بدأ المستعمرون البريطانيون يجتاحون مناطق مجهولة في شتى بقاع العالم، فكان لا بدَّ من التعرف على ثقافات الشعوب المستعمرة أو المُراد استعمارها كمقدمة للهيمنة عليهم، فتم انتداب جامعيين من أوكسفورد وكيمبردج وسواهما لدراسة عادات وتقاليد الشعوب بدءاً من طرق العيش وأساليب الطعام والأزياء مروراً بالأديان والمعتقدات، ليتشكل نتيجة لتلك الدراسات علم الإنسان الأنثروبولوجي وقد ساعد ذلك الإمبراطورية البريطانية في مد نفوذها مشرقاً ومغرباً لذلك سمّيت الأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، إذ استعبدت الكثير من الشعوب وتلاعبت بمصير بعضها وغيرت التاريخ والطوبوغرافيا في العديد من المناطق! وهذا لا يلغي إن هذا العلم: أنثروبولوجي اتخذ طابعاً معرفياً وإنسانياً لاحقا، بل أصبح من أساسيات المنظومة المعرفية.
ورغم إن الأجيال الجديدة من البريطانيين يردون حين تُذكر تلك الحُقب والمآسي: إننا غير فخورين بذلك التاريخ. لكن ورغم مساوئ الإستعمار المعروفة فقد ترك من جهة أخرى إيجابيات وساهم بفتح أبواب التحضر للعديد من الشعوب سواء بفتح الطرق وتسهيل المواصلات أم بفتح المدارس والجامعات ..الخ، لكن هذا لا يعني إنه لولا الإستعمار لما استطاعت الشعوب الأخرى أن تتحضر، بل إن الأمر مرتبط بجدل الظواهر الطبيعية والاجتماعية، أي صراع المتناقضات وفقاً للجدل الماركسي.
كان لابدّ للمآسي الإنسانية أن تخف بمرور الزمن وتطور وسائل الإعلام التي فضحت جرائم المستعمرين والحكومات المُستبدة، وفعلاً فقد رُفعت المظالم عن بعض الشعوب لكن المآسي ما تزال قائمة. فثقافة الهيمنة وتقاسم مناطق النفوذ وتعويق تطور الشعوب الأخرى لكي لا تنافس الغرب أو تتحرر منه ما تزال قائمة وبنفس الوتيرة الجهنمية، وليس اعتباطاً أن يقول نعوم شومسكي غداة انتصار الثورة التونسية ثم المصرية 2011 :(إن الغرب سيبذل كل جهد ممكن لتعويق الديمقراطية في بلدان الربيع العربي) لأن الديمقراطية هي التي تحرر الشعوب من الاستبداد والتخلف ما يُهدد مشاريع هيمنة الغرب على مقدرات الشعوب. لذلك يمكن القول بأن هذا الصعود اللافت للحركات الارهابية ذات السياسات العدمية الرافضة لأي خطاب ديمقراطي، وكذلك التصعيد الطائفي غير المسبوق الذي تشهده بلداننا، لم يأت اعتباطاً، بل هو بفعل فاعل حيث تُنفق مليارات الدولارت لإدامته.
وفي خضم هذا الصراع، وإلى جانب ترقيعات الثقافة الاستعمارية، ظهرت فكرة التسامح وأُريد لها أن تكون ثقافة ومناخاً للمصالحة بين دول متحاربة أو بين أطراف حروب داخلية. لكن الأمر لم يكن سهلاً، ليس سهلاً تناسي الجروح والتغافل عن الأضرار النفسية والمادية أو التنازل عن حقوق تاريخية عندما يأخذ الصراع طابعاً تنكيلياً. ليس من السهولة إحداث التسامح بين الضحية والجلاد، إن صفة كل منهما لا تسمح بذلك مطلقاً طالما بقي كلٌّ منهما في موقعه.
ومع تطور الفلسفة الأخلاقية على خلفية تطور الثقافة الحقوقية في المجتمعات الديمقراطية، بدأت فكرة التسامح تدخل الرؤى الفكرية كقضية إشكالية وليست مجرد موضوع للتسويات التي تشوبها الشوائب بحكم معادلة القوي والضعيف والغالب والمغلوب. لكن فكرة التسامح تبقى نزعة تحضر من حيث انتماؤها الى الترفع والسمو. وما يؤكد ذلك ان العنف ظاهرة مبتذلة. فهو سهل، إذ بإمكان أي إنسان أن يكون عنيفاً، أو مساهماً بإشاعة العنف ليقلق حياة ألوف البشر، لكنَّ سلوكاً كهذا لا يدلّ على القوة أو الشجاعة، بل بالعكس لأن الرغبة بالاعتداء على الآخرين تدل على الخوف المرضي منهم، أي انها تدل على نوع من الضعف الذي سرعان ما يتحول إلى شراسة مُدمرة، وربما كان هذا أحد المنابع السايكولوجية للعدمية والإرهاب.
إنها سايكولوجيا المهزومين أمام ضعفهم هم بالذات. مهزومون أمام عشوائية الصور المشوَّهة التي خضع لها وعيهم عبر مراحل متعددة ولأسباب مختلفة، صور أفكارهم أو تصوراتهم المرعوبة من الحياة ومن حقوق الآخرين التي يُريدون استلابها ولا يستطيعون فيعتبرون ذلك نوعاً من الهزيمة التي تُوجب الرد. لنتأمل هنا تاريخ الأفكار الصهيونية المعتمدة على خرافة أرض الميعاد! أو أزمة الأحزاب النازية التي تريد الإستيلاء على سلطة الدولة بعيداً عن الطرق الشرعية، وحين تُمنع تعتبر ذلك مصادرة لحريتها فتطلق العنان لرغباتها المنحرفة المكبوته لمعاقبة ملايين الناس على ذنب لم يرتكبوه!!
أليست هذه هي حالة الحركة الصهيونية مع الشعب الفلسطيني؟ أليست هذه هي حالة الشعوب التي أُبتليت بأحزاب نازية كما حدث في عراق البعث، وما يحدث الآن في سوريا حيث تحول رعب السلطة من السقوط إلى جحيم من البراميل والصواريخ التي هدّت مدناً بأكملها على روؤس ساكنيها!! أليس هذا هو حكم المأفونين وأنذال التاريخ؟ فهل يصح الحديث عن التسامح هنا؟!
كاتب عراقي يقيم في لندن
كريم عبد