في الانتخابات النصفية التي جرت يوم الثلاثاء 8 تشرين الثاني/نوفمبر2022 خسر جناح الرئيس السابق دونالد ترامب المتطرف والإعلام الداعم له الذي تحدث ومنذ وقت عن «موجة حمراء» لم تحدث أبدا، وصمد حزب الرئيس جو بايدن ونجح في تجنب خسارة فادحة، وحقق نتائج لم تكن متوقعة منه.
ونجاح بايدن غير مرتبط بحب الناس له، فشعبيته لم تتعد 43 في المئة فيما لم ترض نسبة 54 في المئة عن أدائه حسب الاستطلاعات. والجميع يعرف أن حزبه نجح بفضل ترامب، فهذا هو الشخص الوحيد الذي يمكن للرئيس الحالي هزيمته، كما فعل في عام 2020 رغم تمسك ترامب بأسطورة سرقة الانتخابات التي أدخلت الولايات المتحدة في دوامة العنف السياسي وسيطرة مجموعة من المتطرفين وداعميهم في الإعلام على مصير حزب عريق في الولايات المتحدة، وهو الحزب الجمهوري. وتظل نتائج الانتخابات تعبيرا عن الانقسام الحاد في المجتمع الأمريكي الناتج عن أربع سنوات كارثية من حكم ترامب. وفي الحقيقة كانت الانتخابات النصفية الأخيرة عن ترامب وجاءت نتائجها لتعيد التذكير به وماركته التي يلوح بها «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» (ماغا) وهذه الماركة هي التي هزمها الناخب الأمريكي. وأعاد التذكير بمشكلة الحزب الجمهوري وهي ترامب. واللافت للانتباه أن خسارة ترامب فتحت المجال أمام صعود جيل من الجمهوريين، مثل رون دي سانتيس الذي كان الرابح الأكبر في الانتخابات متقدما 20 نقطة على منافسه، وليس في أرياف فلوريدا وحدها بل ومدن ولاية فلوريدا مثل تامبا. وغير دي سانتيس في نزعته المحافظة السرد عن السباق الرئاسي في 2024 بدلا من ترامب الذي تحدث في اوهايو أمام تجمع انتخابي واصفا الولايات المتحدة بأنها بلد من العالم الثالث وهدد بأنه قد يفعلها مرة ثانية، ملمحا لإمكانية إعلان دخوله السباق الرئاسي المقبل. ودعا أنصاره تجهيز أنفسهم لخبر هام، وسنعرف مدى جدية ترامب في يوم الثلاثاء المقبل.
لم تكن موجة حمراء
وعلى العموم فقد تركزت التعليقات على أن الموجة الحمراء وهو شعار الجمهوريين، لم تحدث أبدا، ولا حتى تسونامي بل كان هناك مجرد تموج، وهو ما اعترف به ليندزي غراهام أحد كبار أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين بأن الانتخابات لم تكون بالتأكيد موجة جمهورية. ولم تعرف بعد النتائج النهائية لمن سيقود مجلس الشيوخ والنواب، ولن نعرف إلا بعد عدة أيام بل وشهر في ظل انتخابات الإعادة في جورجيا حيث لم ينجح مرشح ترامب هيرشل وولكر حسم السباق لصالحه، تماما مثل الدكتور محمد أوز، الذي حصل على دعم من ترامب. وذكرت وسائل إعلام أمريكية أن ترامب صرخ على زوجته ميلانيا لأنها حثته على دعم أوز، كمرشح عن الشيوخ في ولاية بنسلفانيا. ولم يحصل مرشحو ترامب على نتائج جيدة مقارنة مع المرشحين الجمهوريين الذين حافظوا على مسافة بعيدة منه. وأكدت معظم التعليقات الصحافية أن الديمقراطية هي التي انتصرت في الانتخابات النصفية وخرجت قوية، وهو ما راهن عليه بايدن ونجح رغم المشاكل التي يلوم الناخب الأمريكي الديمقراطيين عليها من ارتفاع نسبة التضخم إلى 8 في المئة والتهديد بالركود بسبب الوضع الاقتصادي ومخاوف العنف النابع من الجماعات التي تبحث عن طرق لرفض الانتخابات.
والملاحظ أن معظم مرشحي ترامب كانوا ممن دعموا فكرته عن «سرقة» انتخابات 2020 أو عبروا عن مواقف تشي بهذا. وقالت مجلة «إيكونوميست» (10/11/2022) إن النتيجة الأكثر أهمية للتجديد النصفي في 2022 بالنسبة لأمريكا والغرب، هي أن ترامب وطريقته في ممارسة السياسة قد تضاءلت. و«سيخيب هذا آمال كل هؤلاء الناس، بمن فيهم المستبدون في بكين وموسكو، الذين يبحثون عن مؤشرات على التراجع الأمريكي». ولم تعد هناك انتصارات في السياسة الأمريكية، فعندما يدعي حزب ما أن أمريكا ملكه، بناء على تأثير بضعة آلاف من الأصوات في بلد يبلغ تعداد سكانه 330 مليونا، فمن الحكمة التريث وتجنب المبالغة في تفسير النتيجة. فحزب الرئيس يفقد دائما مقاعده في الانتخابات النصفية، ولم تحدث سوى ثلاثة استثناءات لهذا النمط منذ انتهاء الحرب الأهلية في عام 1865. ويبدو أن الناخبين يحبون الحكومة المنقسمة، وهو الأمر الذي كان القاعدة السائدة في واشنطن منذ السبعينيات. إنهم يعاقبون أي حزب لديه أغلبية في مجلسي الكونغرس والرئاسة، كما اكتشف باراك أوباما عام 2010 وترامب عام 2018 وبالتالي يجب أن يتوقع فريق جو بايدن هذا العام، لا يستطيع أي من الحزبين حاليا الاحتفاظ بأغلبية ساحقة من النوع الذي سمح له في السابق بمتابعة البرامج التشريعية الكبرى في واشنطن. ولا يمكن لحزب الرئيس التباهي بأنه انتصر فليست لديه الحلول الناجعة لمشاكل البلاد، فالحزب الديمقراطي يبدو دائما مرتبكا بشأن الجريمة أو الهجرة، ونظرا لأنهم يركزون على الغرابة والتهديدات التي تتعرض لها الديمقراطية على يد العديد من الجمهوريين. والغريب أن الناخبين يرون في الحزب الديمقراطي أكثر تطرفا من الجمهوريين كما أظهر استطلاع «ثيرد وي» أجرته قبل الانتخابات. وربما كانت هذه النتائج هدية للجمهوريين، لكنهم مثل الديمقراطيين ليست لديهم أفكار أفضل حول كيفية معالجة مشاكل أمريكا، ولديهم القليل من الأفكار لجعلها أسوأ. فقد خذل الجمهوريون الناخبين في البلاد من خلال محاولة التملص من رفض مزاعم ترامب بشأن انتخابات 2020. وحرموا بالتالي حزبهم من فرصة إعادة التفكير وإعادة بناء نفسه بعد هزيمته، وهو ما تفعله الأحزاب عادة. ترامب لا يزال اسميا رئيس الجمهوريين. لديه قبضة من حديد على فصيل هائج في الحزب، ومع ذلك، بعد انتخابات هذا الأسبوع، يبدو أنه أكثر عرضة للخطر من أي وقت منذ 6 كانون الثاني/ يناير 2021 عندما اعتقد العديد من الأمريكيين هذه المرة أنه قد ذهب بعيدا جدا. وهناك فرصة للحزب بعد هذا الأسبوع اكتشاف أن ترامب هو مجرد حصان خاسر، فقد قاد الجمهوريين لثلاث خسائر 2018 و 2020 و 2022 وربما كانت أربع إن حسبنا انتخابات الإعادة في جورجيا عام 2020 وكان خاسرا في لحظة انتصاره المفاجئ للتصويت الشعبي، وتغلب بفارق ضئيل على مرشحة كانت تحاول الفوز بعد دورتين لحزبها في الرئاسة، وهو أمر نادر الحدوث. وعليه فالليلة السيئة لترامب وبالضرورة للحزب الجمهوري هي نتاج تصويت الناخبين ضد التطرف في الحزب الجمهوري وليس تصويتا للثقة على رئاسة بايدن، فهناك نسبة 30 في المئة من الناخبين تريده مرشحا لولاية ثانية و67 في المئة تقول إنها لا تريده. ومع ذلك فقد كانت النتائج دفعة معنوية له ولقيادته على الحزب وستعطيه القوة للتعامل مع التحديات الدولية، وبعد 16.7 مليار دولار انفقت على الانتخابات والقتال الشرس على المقاعد في الكونغرس لا تزال أمريكا منقسمة وبطريقة صارخة.
50- 50
وعلينا الملاحظة هنا أن نتائج الانتخابات الأخيرة تعكس انقسام الأمريكيين وميلهم لمنح الحزبين درجات متقاربة (50-50) كما قالت آن لوري في مجلة «ذي أتلانتك» (8/11/2022) حيث قالت إن الجمهوريين والديمقراطيين يجدون أنفسهم مرة أخرى في سباق متقارب بينما يقاتلون من أجل السيطرة على الحكومة الأمريكية. ولو استعاد الجمهوريون السيطرة على مجلس النواب فلن يحصلوا على أغلبية قوية. ويظهر الاقتراع العام أن 46 في المئة من الأمريكيين يفضلون الحزب الجمهوري و 45 في المئة يفضلون الديمقراطيين. ومع تقدم الوقت تبدو نتائج كل انتخابات متقاربة. وكل انتخابات تبدو بأنها مهمة، لأنها كذلك. ويتم تحديد نتائج السياسات بعيدة المدى مرارا من خلال بضعة آلاف من الأصوات في حفنة من الولايات، وهذا اتجاه مؤلم من عدة نواح، فالانتخابات الأمريكية تتم وكأنها قرعة وليست نتيجة وجود حزبين يتنافسان على جمهور ناخب ملتزم وقابل للاقناع «إنها، على الأقل جزئيا، نتاج ركودنا السياسي والاستقطاب الشديد. وهي تعني أنه عندما يفوز أي من الطرفين، فإنه يفعل ذلك بدون تفويض كبير».
الإجهاض
وفات الجمهوريون أمر آخر أثار مخاوف الناس من سياساتهم، وكما قالت ميشيل غولدبرغ في صحيفة «نيويورك تايمز» (10/11/2022) فقد كان الإجهاض وحرمان المرأة من حق الاختيار عاملا. فمنذ أن ألغت المحكمة العليا قضية «رو ضد ويد» 1973 حيث حكمت أن الدستور الأمريكي يمنح المرأة حق الإجهاض، تفوق الديمقراطيون في الانتخابات الخاصة، وفاز الجانب المؤيد لحق الاختيار بانتصار ساحق في استفتاء كانساس بشأن الإجهاض. وأظهرت استطلاعات الرأي وجود سباق متقارب للغاية في العديد من الولايات والمقاطعات التنافسية، وبعضها يتقدم فيها الديمقراطيون، لكن المراقبين الأذكياء يضعون السرد قبل الأرقام. فقد أظهر استطلاع حديث أجرته مجلة بوليتيكو /مورنينغ كونسلت أن 48 في المئة من المستطلعة أراؤهم يعتزمون التصويت للديمقراطيين للكونغرس و 43 في المئة فقط للجمهوريين. ومع ذلك رفضت «بوليتيكو» الاستطلاع الخاص بها ووصفته بأنه شاذ وأعطت القصة الرئيسية حوله العنوان: «يبدو الناخبون مستعدين لإلقاء اللوم على الديمقراطيين بسبب الاقتصاد والتضخم». ومن هنا فمعرفة سبب أداء الجمهوريين الأسوأ بكثير مما كان متوقعا يحتاج لوقت. فربما اهتم الناس بنزاهة ديمقراطيتهم الأمريكية أكثر مما يظن بهم النقاد. وبلا شك فالإجهاض كان جزءا كبيرا من القصة. وتقول غولدبيرغ إن التطرف هو أهم قصة سياسية في البلاد. منذ عام 2020 عندما فاز الديمقراطيون بالرئاسة والسيطرة على مجلسي الكونغرس بهوامش أصغر مما توقعه الكثيرون، كان هناك قلق لا نهاية له حول ما إذا كان الديمقراطيون قد نفروا الأمريكيين المتعصبين من خلال عدم إدانة الدعوات بصوت عالٍ لتخفيض ميزانيات الشرطة، في أعقاب الأداء الضعيف للجمهوريين يوم الثلاثاء، ينبغي على الصحافة السياسية أن تنظر بطريقة مماثلة للطرق التي عمل فيها اليمين الهامشي على تنفير الناس العاديين. اتضح أن أتباع ماغا هم الأشخاص المحاصرون في فقاعة، مقتنعون عن طريق فوكس نيوز والراديو اليميني ووسائل التواصل الاجتماعي وشعورهم الخاص بالاستحقاق بأنهم المنابر الأصيلة الوحيدة للشعب الأمريكي. وتغاضى الجمهوريون في الوقت نفسه عن أن الناخبين «العائمين» هم من يقررون نتائج الانتخابات، لا أنصارهم أو أنصار الديمقراطيين.
إلى أين؟
والسؤال ما هو مسار الولايات المتحدة بعد الانتخابات؟ للأسف، لن يتوقف العراك بين الحزبين ومحاولة كل منهما معاقبة الآخر، فعلى مدار العامين المقبلين، من المرجح أن يغرق الكونغرس في مواجهات مسرحية حول تمويل الحكومة والتحقيقات غير المجدية في المعاملات التجارية لهنتر بايدن، نجل الرئيس. كل هذا سيشغل المشرعين عن مشاكل أمريكا الحقيقية وتظل بدون حل. وأمام هذا الاحتمال العقيم، فمن مصلحة أمريكا والحزب الجمهوري الانتقال من ترامب والتطلع إلى الأمام. وبالنظر إلى تحقيقه أداء جيدا في انتخابات منتصف المدة فإن هذا يجعل بايدن جديرا بالثقة. ولكن هناك أيضا شكوك حول ما إذا كان يجب أن يكون المرشح الديمقراطي في عام 2024. صحيح أن إدارته أخطأت مثل أي رئاسة، في الكثير من الأشياء، ولكن من خلال تسليح أوكرانيا ووضع سياسات للحد بشكل كبير من انبعاثات الكربون، فقد نجحت في تصحيح أمرين مهمين على الأقل. الآن، من أجل مصلحة الحزب والبلد أيضا، قد يعيد بايدن التفكير فيما سيفعله بعد ذلك، كما نقول مجلة «إيكونوميست» فهناك جيل جديد من الجمهوريين يحتاج الديمقراطيون لمنافستهم في المستقبل وليس ترامب الذي قد يصبح رجل الأمس.
ومع ذلك فالعنوان مكتوب على الجدار، فلن يتعلم أي طرف من النتائج وهم في مراكز التشريع. وهناك جمهوريون يهددون بقطع المعونات عن أوكرانيا، كما ورد في تقرير لموقع «ذي انترسيبت» (9/11/2022) مشيرة إلى التيار القومي المسيحي الداعي لوقف المساعدات لأوكرانيا والالتفات لمشاكل أمريكا. وفي هذا السياق أشارت مجلة «فورين بوليسي» (10/11/2022) إلى أن الانتخابات النصفية ستؤدي إلى تغير في سياسة الرئيس بايدن للأمن القومي والسياسة الخارجية. ولكنها قالت إن الدعم لأوكرانيا سيتواصل رغم الأصوات المتصاعدة داخل أنصار ترامب لن يحدث وربما كان هناك بعض التغيير، وسيجد الجمهوريون الداعون لوقف الدعم صعوبة في التعامل مع الداعين لمواصلة الدعم في مجلس نواب يسيطر عليه الجمهوريون بهامش قليل. وكما حدث في مجلس الشيوخ فسيجد الرئيس بايدن مساحة للتعامل مع نسبة شبه متعادلة لتمرير سياساته الداخلية والخارجية. وهناك اجماع على مواصلة الدعم من الحزبين وفي مجلس الشيوخ والنواب ولن يتغير الوضع. هذا إلى جانب محاولات الجمهوريين محاكمة الرئيس بايدن، كما فعل الديمقراطيون عندما حاكموا ترامب ولم ينجحوا بسبب الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ويحاول الجمهوريون حشد جهودهم للتحقيق في طريقة معالجة بايدن لقضايا في السياسة الخارجية مثل الانسحاب من أفغانستان ومسألة الحدود مع المكسيك، وسيحاول النائب مايكل ماكول، من لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب استخدام السلطة الواسعة التي ستمنح له بسبب الغالبية الجمهورية لتوسيع تحقيق في الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان. ويقول بعض الجمهوريين إنهم يخططون لمحاكمة وزير الأمن الوطني أليخاندرو مايوركاس بسبب زيادة أعداد المهاجرين الذين قطعوا الحدود، وهي قضية لن تصل إلى مجلس الشيوخ على الأرجح، ولكنها ستعيد التركيز على الحدود. وكذا محاولة تعطيل الحكومة الفدرالية، كطريقة لإظهار عجز الحكومة في واشنطن. وكان آخر تعطيل في نهاية عام 2018 بسبب الخلاف مع ترامب بشأن السياسة من المكسيك والخطة غير الموفقة لبناء جدار على طول الحدود الأمريكية – المكسيكية. وفي النهاية فالدرس المهم من التجديد النصفي هي أن تأثير ترامب على السياسة الأمريكية في تراجع لكن تأثيره السام متداخل في طريقة الحكم في البلاد، والتفكير بهذا مخيف لأن هذا التأثير السام قد يتم استغلاله لتحديد الفائز في انتخابات عام 2024 كما ذكرت «لوس أنجليس تايمز» (9/11/2024) في افتتاحيتها. وفي نهاية المطاف حصل الأمريكيون على نفس الأزرق والأحمر بتنوعات مختلفة وبوجوه جديدة أقل.