ماذا بقي من القومية؟

شغلني هذا السؤال قبل أيام من اغتيال شيرين أبو عاقلة مراسلة قناة «الجزيرة» في فلسطين. ثم جاء استشهادها باغتيال قذر فشغلني أكثر، حين رأيت ردود فعل الناس الغاضبة من أجلها. كان سؤالي لنفسي هل بقي من فكرة القومية العربية شيء؟ وطبعا الإجابة على المستوى الرسمي لا شيء. وقبل أن أدخل في التفاصيل، أحب بسرعة أن أتحدث عن الفكرة وكيف انتقلت إلينا.
الفكرة أساسا ظهرت مع محاولات دول شرق أوروبا الاستقلال عن الاحتلال العثماني، كان شعار القومية في مواجهة الاحتلال. والقومية هنا لم تكن تعني وحدة هذه الدول مع بعضها، لكن بعث هوية كل أمة وكيف يمكن أن تكون مستقلة، فهي لا تنقصها مقومات الأمة. كذلك ظهرت في ألمانيا من قبل في مواجهتها لغزو نابليون بونابرت واستقلالها عنه. انتقلت إلينا في مواجهة الاستعمار البريطاني والفرنسي، لكنها حملت معنى أوسع وهو القومية العربية، باعتبار أنه لا حدود جغرافية بين البلاد العربية، وباعتبار اللغة العربية هي السائد الأكبر بينها، وطبعا باعتبار هذا طريق التحرر لها من الاستعمار، الذي كانت أقدامه فيها جميعا بدرجات متفاوتة.
كان أول تجلٍ سياسي لها هو ظهور جامعة الدول العربية عام 1945 وفي ما بعد ظهرت تجليات سياسية كبيرة في حرب 1948 مع إسرائيل، وفي مؤازرة ما استقل من الدول العربية لبعضها في مواجهة الاحتلال.
لن أحكي عن دور مصر مثلا في دعم ثورة الجزائر، ولا دور سوريا والدول العربية كلها تقريبا في دعم مصر في مواجهة العدوان الثلاثي عام 1956، أو في حرب 1973. طيب هل قبل ذلك كنا في مصر مثلا بعيدين عن العرب؟ طبعا لا. كانت مصر مكانا لكل المفكرين والأدباء والشعراء العرب والفنانين منذ منتصف القرن التاسع عشر، وبهم قام فن المسرح والسينما وفنون الصحافة. جريدة «الأهرام» مثلا التي انشأها الأخوان بشارة وسليم تقلا اللبنانيين، ودار الهلال التي انشأها جورجي زيدان اللبناني أيضا، ومجلات كثيرة منها «المقتطف» التي كان يرأس تحريرها شبلي شميل. عاش في الإسكندرية مثلا إيليا أبو ماضي في محل دخان يملكه عمه في حي العطارين قبل أن يهاجر إلى أمريكا، وغيرهم كثير جدا من الأدباء والمفكرين الشوام. حديث كبير عن الأدباء من العراق بالإضافة إلى الشام الذي يعني سوريا ولبنان وفلسطين. كانت مصر مركزا للمغاربة والأندلسيين بعد ضياع الأندلس، وفيها كل أضرحة أولياء الله تقريبا من المغاربة، وأكثرهم كانوا صوفيين وكتّابا في شؤون الإسلام. أما عن التجارة فقد كانت الإسكندرية وحدها فيها خمس حارات كبيرة كل منها تسمي حارة المغاربة فيها كل انواع التجارة، وما زالت بعض الحارات تحمل هذا الاسم بين الناس. في السينما الحديث طويل. يكفي أن تشاهد فيلما قديما لتقرأ اسماء النجوم والمخرجين والمصورين وغيرهم من الشوام. يحتاج الأمر إلى صفحات. لم يكن أمر القومية العربية غريبا في كل تجلياته، فما الذي حدث بعد ظهور أنظمة سياسية ترفع الشعار نفسه بعد الاستقلال عن الاستعمار؟ رفع جمال عبد الناصر الشعار بقوة، لكن خسارة مصر للعرب كانت كبيرة حين أمم شركاتهم، في الوقت الذي نادى فيه بالقومية.
كبر موضوع القومية وأخذ أبعادا سياسية صعبة التحقق وهي أن تكون كل الدول العربية في وحدة واحدة. فشل أول تجسيد لذلك في الوحدة بين مصر وسوريا بعد ثلاث سنوات من الوحدة. وخشي حكام العراق أن يأخذهم عبد الناصر تحت حكمه، وخشيت السعودية بعد حرب اليمن. وهكذا صارت فكرة القومية سببا في الخلافات أكثر منها سببا للوحدة، رغم أنها وجدت لدى الشعوب ترحيبا جبارا يصل إلى درجة حمل سيارة عبد الناصر حين زار سوريا، أو تجمع الملايين في الشوارع حين زار المغرب . ما هي أكثر الدول الأخرى التي رفعت شعار القومية؟ العراق الذي بعد الملكية سقط في أشكال مختلفة من الديكتاتورية التي أدت به لغزو الكويت، وجرى ما جرى ويجري حتى الآن في العراق. سوريا التي لم تسلم من الديكتاتورية بعد الاستقلال وحتى الآن. هذه أمثلة ثلاثة على النُظم التي رفعت شعار القومية أكثر من غيرها وبقوة جبارة، مصر وسوريا والعراق.

لا يتسع المقال لإعادة واحد على ألف من تغريدات المثقفين والشباب من أجل انتصار فلسطين وتضامنا مع القضية، لقد توحدت الشعوب العربية متجلية في مثقفيها وشبابها لدعم القضية الفلسطينية، ولا بد من أن إسرائيل في حيرة كبيرة، إذ كيف لاغتيال مراسلة صحافية أن يوقظ القضية الفلسطينية هذه اليقظة، ليس الفلسطينيين وحدهم، بل كل شعوب العالم العربي.

وبين الزمنين، زمن القومية والحاضر، قفز الفكر الإسلاموي فجعل من فكرة القومية سرابا قديما، وكان بدوره أكبر أسباب الحروب والانقسامات، بين هذا كله هل انتهت فكرة العروبة؟ لم تنته. إذن في ما تتجلي أو تظهر؟ تتجلي في الإنتاج الثقافي والأدبي. فنحن الكتاب نعرف معظم، إن لم يكن كل، الكتاب العرب، ومجلات العرب وصحافة العرب نقرأها وننشر فيها. وهم بدورهم يعرفون كل كتاب مصر وفنانيها، بل صارت بلاد الخليج العربي مصدر الجوائز العربية المهمة، والفائزون بها دائما من كتاب البلاد الأخرى، والقليل منهم من بلاد الخليج نفسها. كذلك الأنشطة الثقافية التي لن ينتهي الحديث عنها من عُمان إلى دول الإمارات كلها إلى السعودية إلى الكويت إلى تونس والمغرب وفي القلب مصر، ويحضرها كل الكتاب والفنانين العرب. هذا يعيدنا إلى القديم قبل انتشار فكرة القومية حين كانت الثقافة تأتي بالعرب إلى مصر، ويؤكد أن الثقافة لا السياسة، هي الظاهرة الأكثر رسوخا في الروح والأبقى. حكومات العالم العربي ونظمه السياسية لم تصل إلى ما وصل إليه الاتحاد الأوروبي من وحدة تحتفظ بهوية كل بلد، والجامعة العربية صارت وهما. نحن حقا عرب لكن لكل بلد هوية، وكان من أخطاء القومية التفكير في دولة واحدة، ومن إنكار الهوية الخاصة بكل بلد، بل هناك بلاد فيها أقليات ذات هوية مختلفة مثل الأمازيغ مثلا في المغرب وغيرها، أو الأيزيديين في العراق، والحديث طويل. لقد عدنا رغم فشل فكرة القومية إلى وضعنا الصحيح، وهو الوضع الثقافي. صحيح أنه لا تزال في بعض الدول رقابة صارمة على الكتب والفنون فلا يمر بعضها بسهولة بين البلاد، لكن الإنترنت سهلت كل شيء، حتى الدول التي تحجب الصحف يستطيع شبابها اختراق الحجب، مؤكدين أنه عمل تقليدي تافه لا معنى له في هذا الزمن. هذا ما شغلني ووصلت إليه وقررت أن أكتب فيه قبل حدث اغتيال شيرين أبو عاقلة من قبل الصهاينة ، فماذا حدث بعد استشهادها؟ تأكد لي ما وصلت إليه. فثورة الشعوب لا الدول ولا الأنظمة العربية هي التي تصدرت المشهد. وشهد تأييد فلسطين وتفنيد مزاعم الاحتلال الصهيوني أكبر مظاهرة على الميديا من كل الفئات والأعمار. لم يحدث ذلك في يوم وينتهي لكنه مستمر بقوة جبارة لليوم الخامس الذي أكتب فيه هذا المقال وسيستمر. هكذا فعل المثقفون على اختلاف اتجاهاتهم ودياناتهم، وانتصرت الشعوب لقضية فلسطين أكثر مما انتصرت الدول العربية. لقد بدت قضية فلسطين وكأنها غابت عن الوعي العربي، لكنها استيقظت أعظم استيقاظ، حتى أن الالتفاف حولها والاحتجاج على أعمال المحتل الصهيوني فاق ما جرى من تضامن أيام العدوان القريب على غزة.
لا يتسع المقال لإعادة واحد على ألف من تغريدات المثقفين والشباب من أجل انتصار فلسطين وتضامنا مع القضية، لقد توحدت الشعوب العربية متجلية في مثقفيها وشبابها لدعم القضية الفلسطينية، ولا بد من أن إسرائيل في حيرة كبيرة، إذ كيف لاغتيال مراسلة صحافية أن يوقظ القضية الفلسطينية هذه اليقظة، ليس الفلسطينيين وحدهم، بل كل شعوب العالم العربي. فكرة القومية سياسيا انتهت للأسباب التي ذكرتها، لكن الثقافة والفن والفكر كان وسيظل جسر الشعوب العربية الذي لا يمكن تحطيمه.

روائي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فؤاد عبد النور:

    أهتم بقراءة مقالات هذا الكاتب المحترم، وعادة ما أتقلها لموقع ” مركز حيفا الثقافي ” – فيس بوك، برلين.ولكن الذي لفت نظري في مقال اليوم الرسم المرفق بالمقال، رسم قبة الصخرة، وبهض بيوت القدس، ومنارة جامعٍ بارزة. هي ملاحظة أراها تتكرر في إعلامنا، إبراز الرموز الدينية الإسلامية، وتجاهل الرموز المسيحية، وكأن لا شأن للميحيين في القدس، رقم أن اغتيال شيرين أبو عاقلةالمسيحية لا تزال تترددصداه بقة في العالم. آمل أن يجري تلافي هذا في هه الصحيفة التي أحترمها.

    1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

      معك حق ياأخي فؤاد عبد النور فالقدس بالذات معروفة برموزها الدينية المتعددة كالمسجد الأقصى وكنيسة القيامة!

  2. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي إبراهيم عبد المجيد. كالعادة رائعة هذه الروح العقلانية في مقالاتك. في الحقيقة القومية العربية كفكرة سياسية ثبت أنها فاشلة عربيًا على الأقل بالشكل الذي تم طرحها من الأنظمة العربية والتي كانت غالبًا عسكرية أو دكتاتورية أو باختصار لم تستطيع فهم الواقع المعاصر. فيما بعد تحولت كلها إلى أنظمة استبدادية لاتهتم بالشعوب بقدر ماتهتم بالتمسك بالسلطة على حساب الشعوب. الفارق بالنسبة لأوربا التي كانت ضحية حروب طويلة هو النضوج السياسي التي وصلت إليه أوربا بحيث أصبحت الحكومات تعبر عن إرادة الشعوب وصوتها! أم المقومات الثقافية والتاريخية واللغوية والحضارية المشتركة بين الشعوب للعربية فلا أحد يستطيع إنكارها. وحتى حدىد الدول العربية فهي ليست خدود طبيعية. وحتى الأقليات الموجودة لايتعارض مهعا هذا المشترك فهي أقليات بهذا العامل أو ذاك لكنها مشتركة في بقية العوامل مع بقية الشعب. وهذا شيء طبيعي وموجود في كل بقاع الأرض. المشكلة الكبرى كانت ومازالت هي أزمة النظام السياسي العربي. فهو مجرد استبدادي قمعي أو اقصائي أوسلطوي أو …. هي أنظمة بائسة. هي مشكلة حضارية بكل معانيها ولاحياة كريمة لنا إلا بالخروج من هذا المأزق الحضاري.

إشترك في قائمتنا البريدية