إسطنبول- عبد الجبار أبوراس:
قبل أيام هددت روسيا بقطع إمدادات الغاز عن أوروبا، ردا على العقوبات الدولية المفروضة عليها، إثر عملية عسكرية تنفذها في جارتها أوكرانيا منذ 24 فبراير/ شباط الماضي.
وانتقد نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك، في خطاب متلفز، “الاتهامات التي لا أساس لها ضد روسيا، وفرض حظر على نورد ستريم 2” في إشارة إلى قرار ألمانيا وقف التصديق على خط أنابيب غازبروم الثاني.
وأضاف نوفاك: “لدينا كل الحق في اتخاذ قرار مماثل بفرض حظر على ضخ الغاز (الطبيعي) عبر خط أنابيب الغاز نورد ستريم 1، والذي يتم تحميله اليوم عند حده الأقصى 100 في المئة”.
خطوة من هذا النوع، وفق خبراء، ستكون لها تداعيات سلبية جدا على أوروبا، لكنها في الوقت نفسه ستضر بروسيا أيضا، حيث يعتمد اقتصادها بشكل كبير على صادرات الغاز والنفط.
وإذا غامرت موسكو بقطع الغاز عن أوروبا، الذي يمر إليها عبر أوكرانيا أو بيلاروسيا أو مباشرة إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق، فإنها بذلك تدخل معركة عض أصابع مع الدول الغربية، فكلاهما سيتضرر.
انهيار “فوري” للاقتصاد الروسي
الطاقة هي شريان الحياة لاقتصاد روسيا، حيث تشكل صادرات النفط والغاز الطبيعي حوالي 40 في المئة من ميزانيتها الفيدرالية، ونحو 70 في المئة من إجمالي صادراتها.
وقال الباحث والمحلل السياسي علي باكير، إن الاقتصاد الروسي يعتمد بشكلٍ أساسي على عائدات النفط والغاز.
وأضاف أن قطع الإمدادات عن كبار المستهلكين للنفط والغاز يعني توقف عائدات العملة الصعبة، ما سيؤدي في ظل العقوبات الحالية إلى انهيار فوري للاقتصاد الروسي، لا سيما أن الأسواق الأخرى لا يمكنها أن تعوض السوق الأوروبي.
وتابع: “من الممكن للصين أن تزيد مثلا من مشتريات النفط والغاز الروسية، لكن هذا ليس كافيا، كما ستشترط بكين شراءه بسعر بخس، وستدفع بالعملة المحلية على الأرجح، أو تقايضه بسلع، وهذا لا يفيد كثيرا النظام الروسي”.
ووفق الباحث في مركز سياسات الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا الأمريكية أوناثان إلكيند، فإن اعتماد روسيا بدرجة كبيرة على الأسواق الأوروبية في صادرات الغاز والنفط يمنعها من قطع إمدادات الغاز عن القارة.
والآن، فُرضت عقوبات دولية على روسيا، وتراجعت قيمة عملتها بنحو 65 في المئة، وانسحبت آلاف الشركات العالمية من أراضيها، منذ بدء عمليتها العسكرية في أوكرانيا.
وفي الظروف الراهنة، فإن خيار وقف تصدير الغاز إلى أوروبا ستترتب عليه خسائر كبيرة، فموسكو الآن بأمس الحاجة لهذه الإيرادات، لتغطية تكاليف العملية العسكرية.
بينما يقول الروس إنهم يملكون أسواقا بديلة هائلة من حيث حجم الاستهلاك، كالصين، خصوصا بعد توسيع خط أنابيب “قوة سيبيريا”.
لكن محللين أوروبيين قللوا من أهمية هذه الفكرة، لا سيما أن عملية التوسيع هذه تحتاج إلى وقت لتطبيقها.
وقال كبير الخبراء الاستراتيجيين الأوروبيين بمركز أبحاث “BCA” ماتيو سافاري: “رغم أن موسكو أبرمت صفقة مع بكين، الشهر الماضي، لتزويدها بـ10 مليارات متر مكعب إضافية من الغاز سنويا، فإن خط الأنابيب الجديد المخطط له نقل هذه الإمدادات سيستغرق عامين إلى ثلاثة أعوام ليكتمل”.
وأردف سفاري في حديث لشبكة “سي إن بي سي” الاقتصادية الأمريكية، أنه “سيتعين على روسيا الاعتماد على مبيعاتها إلى أوروبا لتمويل توغلها العسكري في أوكرانيا وضمان الاستقرار الداخلي”.
وبإبرام روسيا عقدا بـ400 مليار دولار لمدة 30 عاما، تزود بموجبه الصين بـ10 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويا، تزداد الكمية إلى 38 مليار متر مكعب اعتبارا من 2024.
لكن هذه الكمية تبقى أقل بكثير من تلك التي تستوردها أوروبا من روسيا سنويا، وتراوح بين 150 و190 مليار متر مكعب.
ومن المستبعد أن تتمكن روسيا من التعويل على الهند، بجانب الصين، كسوق لغازها بديلا عن السوق الأوروبي.
فالهند استوردت في 2021، ما يعادل 1 في المئة فقط من احتياجاتها من الغاز الطبيعي من روسيا، أي ما يماثل 0.2 في المئة من صادرات موسكو من المادة.
كما تفكر روسيا في أسواق بديلة أخرى، كجمهوريات آسيا الوسطى وبلدان جنوب شرقي آسيا وحتى دول إفريقية مستقبلا.
لكن من غير الواضح كم ستحتاج روسيا من الوقت لتصريف الفائض الذي قد يخلفه التخلي عن سوق أوروبا.
كما أن شركة غازبروم، عملاق الغاز الروسي، قد تواجه سيلا من الدعاوى القضائية والغرامات العالية لخرق التزاماتها التعاقدية، في حال قطع موسكو الغاز عن أوروبا، وهو ما يؤثر بدوره على الشعب الروسي، وفق موقع “إنرجي بوست” الأوروبي المتخصص بالطاقة.
آثار جانبية كبيرة للاقتصاد الأوروبي
تولد الدول الأوروبية نحو ربع طاقتها الكهربائية من الغاز الطبيعي، وتستورد حوالي ثلث احتياجاتها من الغاز من روسيا، بحسب “غولدمان ساكس”، وهي مؤسسة خدمات مالية واستثمارية أمريكية متعددة الجنسيات.
وحتى ألمانيا، أكبر اقتصاد أوروبي، زاد اعتمادها على واردات الطاقة الروسية بشكل كبير خلال السنوات العشر الماضية.
فقد ارتفعت حصة إمدادات الغاز الطبيعي الروسي إلى ألمانيا، خلال 10 سنوات، من 40 إلى 55 في المئة، وفق موقع “دويتشه فيله” الإخباري الألماني.
وتعتمد دول أوروبية، مثل التشيك ولاتفيا ومولدوفا، على الغاز الروسي بنسبة 100 في المئة.
هذه المعطيات تؤكد أن إغلاق روسيا صنابير الغاز عن أوروبا سيهدد أمن الطاقة في القارة العجوز، لعدم توفر بديل كافٍ على المدى القريب.
وحتى إن توفر، فإن تكلفته ستكون باهظة جدا، فضلا عن أن أوروبا تفتقر لمحطات الغاز الطبيعي المسال، الذي تستورده من دول مثل الولايات المتحدة.
وتظهر المخاوف الأوروبية جليةً من خلال عدم فرض عقوبات على الطاقة الروسية، وتراجع ألمانيا عن مقترحات فرض حظر على واردات النفط.
وقال المستشار الألماني أولاف شولتس، الأسبوع الماضي، إن النفط والغاز الروسي لهما “أهمية أساسية” للاقتصاد الأوروبي، حيث يأتي نحو 40 في المئة من واردات الاتحاد من الغاز وربع نفطه من روسيا.
لذا، فإن أي اضطرابات أخرى في عملية استيراد الغاز من روسيا يمكن أن تكون لها آثار جانبية كبيرة على اقتصاد منطقة “اليورو” والتضخم.
كما أن أسعار الغاز ارتفعت بالفعل إلى مستويات قياسية بنسبة 60 في المئة، مدفوعة بالأزمة الروسية الأوكرانية.
هل يوجد بديل عن الغاز الروسي؟
تصاعدت تساؤلات عما إذا كان الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة أو قطر يمكن أن يحل محل الغاز الروسي حال قطعت موسكو غازها عن أوروبا.
وسجلت واردات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، خاصة من الولايات المتحدة، رقما قياسيا بلغ نحو 11 مليار متر مكعب في يناير/ كانون الثاني الماضي.
لكن قدرة محطات الغاز الطبيعي المسال في أوروبا محدودة على استيعاب الإمدادات الإضافية، في حال توقفت إمدادات الغاز من روسيا، وفق تقرير مشترك لشبكة “يورو نيوز” و”رويترز”.
ومسألة بناء محطات جديدة لتسييل الغاز وإعادته إلى شكله الغازي تستغرق سنوات وتكلف مليارات الدولارات، بحسب “إنرجي بوست”.
ورغم ذلك، يوجد توجه أوروبي لزيادة محطات الغاز الطبيعي المسال، حيث أعلنت ألمانيا، نهاية الشهر الماضي، أنها تخطط لبناء محطتين.
وقال المستشار الألماني إنه يريد فعل المزيد لحماية إمدادات الطاقة في بلاده، حيث تتطلع إلى تقليل اعتمادها على الغاز الروسي.
لكن بطبيعة الحال، هذا الأمر لن يحدث في يوم وليلة.
بالنسبة لقطر، وهي أحد أكبر مصدري الغاز الطبيعي المسال في العالم، فقد أعلنت أنه ليس لديها أو لدى أي دولة أخرى القدرة على تعوض إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، حيث ترتبط معظم الكميات بعقود طويلة الأجل ولديها شروط واضحة للوجهة.
وتوجد خيارات لإعادة مسار شحنات الغاز المسال من دول مثل كوريا الجنوبية واليابان إلى أوروبا، في ظل الأزمة الراهنة.
والشهر الماضي، أعلنت اليابان أنها ستمد أوروبا ببعض وارداتها من الغاز الطبيعي المسال، تحسبا لحدوث اضطرابات في إمدادات القارة من الغاز الروسي، إذا تصاعد التوتر بشأن أوكرانيا.
لكن اليابان قد لا يكون لديها الكثير من الغاز لإرساله إلى أوروبا، بالنظر إلى أنها هي الأخرى تسعى إلى الحصول على إمدادات بكميات كافية.
وتحدث وزير الاقتصاد والتجارة والصناعة الياباني كويشي هاجيود، عن وضع الطاقة “الصعب” في بلاده حاليا، في ظل زيادة الطلب نتيجة حالة الانتعاش الاقتصادي التي تشهدها الأسواق العالمية.
وبخصوص خيار البدائل غير الغازية، كالفحم والطاقة النووية، فإن الأخيرة آخذة في الانخفاض في دول أوروبا؛ بسبب تهالك المحطات وإيقاف التشغيل والتوقف التدريجي والانقطاع المتكرر.
كما أغلقت العديد من دول الاتحاد الأوروبي محطات الطاقة القديمة التي تعمل بالفحم أو لا تبني محطات جديدة، تحت الضغط العالمي لتحقيق الأهداف المناخية للحفاظ على البيئة.
ختاما، في حال أقدمت روسيا على قطع إمدادات الغاز إلى أوروبا، فيبدو أنه لن يترتب على هذه الخطوة خسائر كبيرة عليهما فحسب، بل ستمتد تداعيات ذلك إلى العالم بأسره، فهو بالفعل “جائع” للطاقة، وقد يدفع الدول الغربية إلى فرض عقوبات أقسى على موسكو تزيد من عزلتها.
(الأناضول)