سؤال يطرح ويتبادر إلى أذهان متابعي شؤون المنطقة، ماذا مع لبنان بعد غزّة؟
أي أنّه في حال تم الاتفاق على صفقة لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، وأُقرّت اتفاقية تبادل أسرى ورهائن ووقف للقتال، وبدأت الحياة تعود من تحت الأنقاض إلى القطاع، ماذا مع الجبهة اللبنانية! هل ستتوقف أم ستتسّع كما تهدد قيادات عسكرية وسياسية في إسرائيل؟
هل سيتوقف القتال أم سوف يتّسع، وهل سينفذ قادة الاحتلال تهديداتهم بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، كما قال الوزير الفاشي بن غفير قبل يومين؟ وهل يمكن إعادة لبنان الى العصر الحجري، ويبقى شمال فلسطين المتاخم للبنان في عصر الهايتيك؟ وهل الحرب الواسعة لعبة يمكن السيطرة على مجرياتها من أولها حتى نهايتها؟ وهل ستقف المقاومة في قطاع غزّة موقف المتفرّج، إذا ما اتّسعت دائرة المواجهة في الشّمال، رغم ما قدّمه حزب الله من موقف داعم لمقاومة غزة وفلسطين؟
هذا سؤال مهم جدا، فبعد أن نجح حزب الله في بناء جبهة متزامنة بينه وبين المقاومة في فلسطين، لا بد من أن هناك من يسعى إلى تفكيك هذا التحالف، قبل أن يشتدَّ عودُه وينسف نظريات بنى عليها مصمّمو سياسة ضرب الأسافين بين مختلف مكونات شعوب المنطقة ومذاهبها، كأحد أعمدة إدارة الصراع، الذي راح يتغذى بتواطؤ ورضى ومساهمة جهات عربية متعدّدة، وهو ما أطلقوا عليه «الصراع بين الخط السُّني المعتدل والشيعي المتطرّف». أعلن حزبُ الله مراراً، أنّه سيتوقّف عن مهاجمة أهداف إسرائيلية، إذا توقّف العدوان على قطاع غزة، وهذا ما أعلنه الجانب اليمني مراراً، بأنّه سيتوقف عن اعتراض السُّفن المتّجهة إلى دولة الاحتلال في حال توقّف العدوان. ولكن السّؤال هو هل ستتقبّل حكومة الاحتلال الأشدّ تطرّفاً هذه المواقف، وتترك حزب الله يبدو منتصراً، وبأنّه الأب الرّوحي والسّند لمقاومة الاحتلال في فلسطين، بعدما أدار من هم أكبر منه عدّة وعديداً ظهورهم لشعب وصل إلى درجة الموت جوعاً، بل واصلوا التعامل الدبلوماسي مع الاحتلال، كأنّ شيئاً لم يحدث، خصوصاً مجزرة الطفولة التي لم يحدث مثلها في كلِّ العصور، والتي يجب أن تدمغ هذه الحقبة من تاريخ البشر بالعار.
أثبتت وقائع المواجهة أنّ العصر الذهبي للاحتلال قد ولّى، وأنّ الاحتلال والعدوان في أفول مهما بلغ جبروته، رغم الأثمان الباهظة التي دفعها ويدفعها وسوف يدفعها الشعب الفلسطيني
يحاول نتنياهو أنْ يخدع الجميع كعادته، فهو يريد بث انطباع بموافقته على وقف إطلاق النار لإنقاذ الأسرى، كي يخفّف الضغط الداخلي الذي يقوده أهالي الأسرى ضد حكومته، الذي أودى بحياة عدد من الأسرى والرّهائن، ويهدّد المتبقين منهم، وبأن يبدو مرِناً، سواء في داخل أمريكا، أو غيرها من الأصوات التي تطالب بوقف إطلاق النار التي باتت كثيرة حتى من أصدقاء إسرائيل، ولكنه في الوقت ذاته يسرع ويعلن بأنّه بعد تبادل الأسرى الذي يفترض أن ينتهي خلال اثنين وأربعين يوما في حال تطبيق الصفقة، سيعود إلى الحرب لتحقيق بقية الأهداف التي أعلنها وهي، إسقاط حكم حماس ومحوها من الوجود، لبدء مرحلة جديدة وأكثر تقدّما من القضاء على القضية الفلسطينية، يطلق عليها ما بعد حماس، ويبني في مخيلته تنصيب عملاء للاحتلال يصرفون شؤون القطاع. الرئيس الأمريكي جو بايدن يطالب بإقرار الصفقة التي اتفق ونسّقها مع نتنياهو، ولكن نتنياهو يأبى إلا أن يفضح الحقيقة، وهي إبقاء بند وقف إطلاق النار الدائم غامضاً وقابلا للتأويل، وبمعني آخر، أراد جو بايدن هو الآخر أن يشارك نتنياهو بالخداع بإعلان وقف إطلاق نار لإطلاق سراح الرهائن، ومن ثم ترك الحرّية لنتنياهو بأن يتذرع بأيّ سبب لاستئناف القتال للقضاء على حماس، وهو ما لا يخفيه بايدن، إلا أن نتنياهو لم يستطع صبراً حتى إتمام الصفقة، ذلك أنّ في حكومته من يهدّد بإسقاطها إذا ما وافق على الصّفقة، فأسرع لإعلان حقيقة الصفقة التي أرادها بالخداع.
قيادة حركة حماس السياسية والعسكرية، ليست من الطراز الذي ينتظر كذبة يتمسّك بها لتبرير الموافقة على أمر غير واضح، بل أعلنت بوضوح أمام الشّعب الفلسطيني والعربي والعالم، بأنّها تريد صفقة لوقف إطلاق للنار مع التزام واضح من قبل الأطراف المشاركة، بوقف العدوان وانسحاب قوات الاحتلال من القطاع. هدف الاحتلال الذي يُنظّر إلى ما بعد حُكم حماس يعني مواصلة القتال، لأنّ حماس لن تحلّ نفسها بنفسها، ولن ترفع الرّاية البيضاء، فوقف القتال يعني عودة حماس بسرعة إلى ترميم قوّتها، وعودة الناس إلى مناطقهم ومساكنهم المهدّمة، والبدء في عملية البناء من جديد، إضافة إلى أنّ نهج حماس سوف يكتسح الرأي العام الفلسطيني وحتى العربي، وسيجد تعاطفاً عالمياً معه. يحث جو بايدن على تمرير الصّفقة، ضمن حساباته الانتخابية والإقليمية، وفي الوقت ذاته يعلن مجلس النواب الأمريكي عن عقوبات ضد محكمة الجنايات الدولية التي أصدرت أمر اعتقال ضد نتنياهو وغالانت، وتعلن إدارة بايدن عدم اعترافها بمحكمة العدل الدولية، ليثبت حرصه على إسرائيل أكثر من نتنياهو نفسه، الأمر الذي دفعه للإعلان بأن نتنياهو «ربما يستغل السّياسة لأجل قضاياه الشخصية».
وعودة إلى حزب الله، فإن توسيع دائرة الحَرب على لبنان لا يعني بالضَّرورة انتصاراً إسرائيلياً على حزب الله، والقضاء على قدراته العسكرية، وإذا كانت غزّة المحاصرة منذ سنوات قد صمدت هذه المدة، فالحال مع حزب الله سيكون أصعب وأشد تعقيداً، وذلك أنّه مزوّد بعتاد أكثر تطوُّراً وثِقلا ودِقّة، إضافة إلى التضاريس والعمق الجغرافي الذي يخدمه. هذا يشكّل معضلة متجدّدة، فوقف الحرب على الجبهتين في قطاع غزة يعني بقاء حماس، وبقاء حزب الله كقوة إقليمية وازنة، يعني نشوء معادلة واستنتاجات سياسيّة وعسكرية جديدة. لا يوجد «ما بعد حكم حماس في غزة»، حتى لو استمرّت الحرب سنواتٍ وليس أشهر، فحماس ليست مكاتب ومباني رئاسية وقافلة سيارات سوداء مصفّحة ودرّاجات نارية، ولا أرتال دبّابات وناقلات جند مرتّبة بنظام شديد مثل سِدر البقلاوة وعش البلبل، أما لبنان فلن يعود إلى أيام قال فيها موشيه ديان عندما سألوه بعد حرب يونيو/ حزيران عام 67 سؤالا ساخراً «ماذا لو تدخّل لبنان في الحرب»؟ ردّ يومها بعنجهية فائقة وساخرة» نُرسل لهم جوقة جيش الدفاع».
هذه الجولة من المواجهة حُسِمت من الناحية الاستراتيجية، ما يجري الآن وما يمكن أنْ يجري، لن يغيّر المعادلة الجديدة التي نشأت، وبغضّ النّظر عن بقاء الاحتلال في قطاع غزة أم استيطانه من جديد، كما يتشدّق كثيرون في دولة الاحتلال، وكأن تجربة أكثر من نصف قرن من المقاومة لم تقنعهم بعد باستحالة دوام الاحتلال، وبغضّ النظر عن اتساع الحرب في الشّمال أم توقّفها النهائي، فقد حدث أمرٌ جديدٌ، يحاول الاحتلال تجاهله ويرفض الاعتراف به، ولهذا يحاول إعادة عقارب السّاعة إلى الوراء فيزداد تخبّطاً، فقد أثبتت وقائع المواجهة أنّ العصر الذهبي للاحتلال الذي بدا قبيل هذه المواجهة قد ولّى، وأنّ الاحتلال والعدوان في أفول مهما بلغ جبروته، رغم الأثمان الباهظة التي دفعها ويدفعها وسوف يدفعها الشعب الفلسطيني ومعه شعوب المنطقة.
كاتب فلسطيني