استمعت بتمعن ومحاولة للفهم لإجابات المواطنين العرب، من مختلف أقطار المشرق والمغرب، على السؤال المعتاد الذى يطرحه الإعلاميون في نهاية كل عام. كان السؤال الروتيني المتكرر الموجه للمواطن: ما الذي تتمناه للسنة الجديدة المقبلة؟ وكان الجواب الروتيني المتكرر هو: أتمنى أن يكون عام خير وسعادة وسلام لأمتنا العربية، ولأمتنا الإسلامية. كل الإجابات كانت عبارة عن رغبات وتمنيات ومشاعر إنسانية نبيلة، خلت من أهداف وطنية أو قومية محددة، ومن عزم فردي على عمل شيء مجتمعي محدد.
تساءلت داخل نفسي: هل أساء المجيبون فهم الهدف من الأسئلة، واعتبروها تستدر عواطفهم وأحلامهم الشخصية، بدلا من معرفة مواقفهم العامة وتقييمهم لما يجري في السنة المنتهية، وأيضا معرفة ما يريدونه أن يتحقق من حلول وتغييرات كمواجهة ورفض لما كان يجري في السنة المنتهية؟ السؤال يطرح في فضاء إعلامي عام ويوجه إلى عينة من المواطنين، وإذن فهو سؤال عام يخص الوطن وساكني الوطن، الوطن العربي في هذه الحالة. ولذلك الذين اقتصرت إجاباتهم على التعبير عن مشاعر الأمل ينطبق عليهم ما قاله الشاعر البريطاني جورج هربرت من «أن الذي يعيش على الأمل إنما يرقص بدون موسيقى».
نعم، الأمل العام المعبر عنه بكلمات، مثل الخير والسعادة والسلام، هو كالرقص الذي ليكتمل جماله وتوازنه والتمتع به يحتاج إلى موسيقى تصاحبه.
الموسيقى هي ما نقص في الإجابات: ما المطلوب عمله وفعله وتحققه ليعم الخير والسعادة والسلام ربوع الوطن العربي في السنة الجديدة؟ استدعاء تلك الموسيقى في حالتنا التي نصف هو استدعاء لا لمسؤوليات المجتمعات فقط، وإنما أيضا استدعاء لمسؤوليات الفرد المجيب على السؤال المطروح من قبل الإعلاميين. من حق المستمع للسؤال والإجابة أن يعرف ما الذي يريد المجيب من مكونات مجتمعه أن يفعلوه؟ وما الذي يتعهد هو أن يفعله لتخرج أمة العرب من جحيم السنة المنتهية إلى جنة خير وسعادة وسلام السنة الجديدة المقبلة؟ هذا يستدعي تلاحم مشاعر الخوف المؤلم المؤرق عند المجيب، مع مشاعرالرجاء والأمل التي عبر عنها جميع الأفراد الذين سئلوا تماما كما عبر عنه الفليسوف الهولندي الشهير سبينوزا من أنه «لا يوجد أمل بدون خوف، ولا خوف بدون أمل».
الأمل المعبر عنه بكلمات، مثل الخير والسعادة والسلام، كالرقص الذي ليكتمل جماله يحتاج إلى موسيقى تصاحبه
خوف المواطن العربي على وطنه يولده الالتزام المسؤول العضوي بصحة وسلام حاضر وطنه، وأمل المواطن العربي بأن يعيش وطنه في العام الجديد في بحبوحة الخير والسعادة والسلام، يولده الالتزام المسؤول العضوي بصحة وسلام وتقدم مستقبل ذلك الوطن. وأنا مستلق، أفكر في أحوال هذه الأمة المنكوبة يؤرقني سؤالان آخران. الأول يتعلق بهذه الأمة والثاني يتعلق بهذا العالم المأزوم. منذ سنين طويلة، وبالذات منذ بدء تفجر الثورات والحراكات العربية قبل ثماني سنوات، سأل الإعلاميون السؤال نفسه، وحصلوا على الجواب نفسه. ترى لو كانت الإجابات أكثر وضوحا، وأكثر التزاما، وأكثر تعبيرا عن إرادة الالتزام والفعل، ولو صاحبها انغماس المجيبين في الحياة المدنية السياسية في صورة نضال الكتف مع كتف الآخرين، وامتزاج العرق مع عرق الآخرين، فهل كان الوضع العربي سيبقى كما كان، سنة بعد سنة، مستباحا من الخارج، مقموعا من الداخل، منغمسا في الصراعات الطائفية والقبلية والأمنية المجنونة، مواجها لأقبح هجمة جهادية تكفيرية إرهابية ضد البشر والثقافة، وكل ما على الأرض العربية من بناء وتمدن؟ ألم تكن تلك الآمال المعبر عنها سنة بعد سنة قناعا يخفي العجز واللامبالاة والتفرج الأبله؟
الأمر نفسه ينطبق على إجابات غير العرب، في شتى بقاع الأرض، على أسئلة إعلامييهم في نهاية كل عام ومجيء سنة جديدة. أجزم بأن الإجابات هي الإجابات نفسها، وقلة الالتزام والفعل هما قلة الالتزام والفعل نفسه، ألا يفسر ذلك أن يبقى نظام رأسمالي نيوليبرالي عولمي، بالغ التوحش والخبث والظلم والاستئصال، متربعا على أنفاس هذا العالم سنة بعد سنة، بدون أن يوجد حراك قادر على تعديل مساره، وإزالة جوانبه السلبية الكثيرة، ومنع حدوث أزماته التي لا أمل في عدم رجوعها وتكرارها عبر المستقبل البعيد؟ ألا يفسر انتخاب رؤساء دول نرجسيين مجانين وقادة أحزاب شعبويين فوضويين أنانيين؟ أشعر بأن العيش في الخوف والتلهي بالأمل من قبل البشر يماثل ما عبّر عنه الشاعر الإيطالي بترارش في القرن الرابع عشر الميلادي: «إنني لا أجد سلاما، ولا أنا في حرب. إني فقط أخاف وأعيش الأمل، وأحترق وأبقى كالثلج» .
من حسن الحظ أن هناك مايقابل ذلك العيش الحزين العاجز، وهو يتمثل في تعبير الشاعر الإنكليزي الشهير وليام وردزورث: «موسيقى الإنسانية الحزينة ليست بالصاخبة، لكن فيها من القوة ما يصحح ويعاقب». هذا ما يجب أن يعيه أولئك المجاوبون المؤملون الحالمون.
كاتب بحريني
في بلاد العرب: تفاءلوا بالخير لن تجدوه طالما ان انظمة الخنوع والركوع والخيانة الفساد والقمع والقتل مازالت قائمة