أن تبني مزيدا من الكنائس؟ أن تفتح معابد يهودية؟ أو تقيم إلى جانبها أخرى بوذية؟ قطعا لا. ليس ذلك ما قد يرغب الأمريكيون الآن في رؤيته في الجزائر. لكن ما الذي جعلهم إذن يدرجونها على لائحة الدول التي «تخضع إلى مراقبة خاصة» بسبب «انتهاكات حرية الدين»، وفقا لما جاء في التقرير الذي أصدرته خارجيتهم الخميس الماضي؟ هل لأنها «تورطت في انتهاكات جسيمة لحرية الدين، أو تسامحت معها بشكل خاص»، مثلما ينسبون إلى الدول الموجودة على تلك اللائحة، وقصرت بالتالي في القيام بجهد كاف حتى تضع حدا «للانتهاكات المماثلة للهجمات على أفراد الأقليات الدينية، وأماكن عبادتهم وأعمال العنف الطائفي، والسجن لفترات طويلة بسبب التعبير السلمي، والقمع العابر للحدود الوطنية، والدعوات إلى العنف ضد الطوائف الدينية، بالإضافة إلى الانتهاكات الأخرى التي نشهدها في أماكن كثيرة حول العالم»، كما نسب وزير الخارجية الأمريكي إلى حكومات تلك الدول؟
لا يساور الجزائريين أدنى شك في أن تكون لواشنطن غاية، أو غايات أخرى من وراء ذلك، وفي آن آخر ما يمكن أن يشغلها في خضم المشاكل والمآسي الكبرى التي تحدث اليوم في العالم، هو وضع الحريات الدينية في بلادهم. إنهم واعون تماما بأن مثل ذلك الادعاء يبدو ضعيفا جدا ومهزوزا وغير متماسك. ومع ذلك فإن الطريقة التي تعاملوا بها مع الموضوع، اتسمت على الصعيد الرسمي بكثير من الهدوء وضبط النفس، وابتعدت تماما عن الردود الصادمة والمتشنجة، من قبيل الاحتجاج واستدعاء السفير وإبلاغ الجانب الأمريكي مثلا وعبر القنوات الدبلوماسية المعتادة، أن عليه إن كان جادا بالفعل في حرصه على حماية حرية المعتقد، وممارسة الشعائر الدينية في العالم، أن يفتح عينيه مليا ويرى ما يجري منذ أكثر من ثلاثة شهور في قطاع غزة، حيث لا تفرق أسلحة الدمار الشامل الإسرائيلية هناك بين مسلم ومسيحي ويهودي، ولا تراعي أو تحترم لا حرمة مسجد ولا كنيسة، أو أن ينظر قليلا إلى بعض الدول الأوروبية مثل، فرنسا التي باتت تمنع المسلمات حتى من تغطية رؤوسهن في الأماكن العامة.
المؤكد أن الأمريكيين ليسوا بصدد ممارسة ضغط على الجزائر لتغير مواقفها الخارجية، بقدر ما أنهم يريدون اختبار مدى استعدادها للتعاون معهم في أكثر من ملف إقليمي
وبالمقابل فقد أعطوا الضوء الأخضر لهيئة دستورية هي المجلس الإسلامي الأعلى، لشن هجوم لاذع على وزير الخارجية الأمريكي، والإشارة من خلال بيان أصدرته، إلى الازدواجية الأمريكية في التعاطي مع تلك الحريات ختمته بالقول: «عجيب أمر السيد بلينكن الذي تشجع وأعلن صراحة يهوديته التي سبقت أمريكيته وتفوقت عليها. إنها الخصلة التي تمنعه من تصنيف الكيان الصهيوني إلى جانب داعش وكلاهما من منجزات أمريكا بلده، الذي باسمه يصنف الدول والمجتمعات». فيما انحصر الموقف الرسمي حتى الآن في ما سبق وعبّر عنه وزير الخارجية الجزائري من «عميق الأسف» لما ورد في ذلك التقرير من «معلومات مغلوطة وغير دقيقة بخصوص الجزائر»، حسبما جاء السبت الماضي في بيان أصدرته الخارجية الجزائرية، حول اتصال هاتفي أجراه أحمد عطاف مع نظيره الأمريكي أنتوني بلينكن بشأن تلك المسألة، وذكر له فيه أيضا أن التقرير الأمريكي «أغفل الجهود التي تبذلها الجزائر في سبيل تكريس مبدأ حرية الاعتقاد والممارسة الدينية، وهو المبدأ الذي يكفله الدستور الجزائري بطريقة واضحة لا غموض فيها»، وفقا لما جاء في نص البيان نفسه. وكان واضحا أن الدبلوماسية الجزائرية أرادت الموازنة بين أمرين وهما الحاجة للرد بقوة على التقرير الأمريكي، ولو بشكل غير مباشر، والحرص في الوقت نفسه على أن لا يتسبب ذلك في صب مزيد من الزيت على النار، والتأثير سلبا على العلاقات مع واشنطن. ولعل السياق الذي ظهر فيه ذلك التقرير جعلها تتصرف على ذلك النحو، فالجزائريون يعلمون جيدا أن التورط الأمريكي في دعم العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في قطاع غزة، يدحض فعليا كل الحجج التي قد يقدمها الأمريكيون حول حرصهم على حماية كل أشكال الحريات، دينية أم غير دينية في الدول العربية، وأنه قد يجعل الجزائر في المقابل، وفي نظر البعض على الأقل، تبدو وكأنها ضحية لهجمة إعلامية وسياسية مفتعلة، أو أنها تتعرض إلى نوع من الابتزاز والمساومة من جانب الإدارة الامريكية، بسبب مواقفهم الثابتة من القضية الفلسطينية، مثلما أشار إلى ذلك مثلا، أحمد صادوق رئيس كتلة حركة مجتمع السلم، على صفحته على فيسبوك. وهذا ما يجعل الانتقاد الأمريكي لسجل السلطات الجزائرية في ملف مثل ملف الحريات الدينية، يبدو في هذا الوقت بالذات، حمال أوجه وملتبسا للغاية ومفتوحا على أكثر من تأويل، على اختلاف المواقف ووجهات النظر. غير أن المؤكد في كل الأحوال هو أن الأمريكيين ليسوا بصدد ممارسة ضغط على الجزائر حتى تغير مواقفها الخارجية بشكل جذري وسريع، بقدر ما أنهم يريدون اختبار مدى استعدادها للتعاون معهم في أكثر من ملف إقليمي. ومع أن تأويل معظم وسائل الإعلام الجزائرية، قد انصب حصرا على القضية الفلسطينية فإن ذلك قد يحجب ربما جانبا آخر قد يكون أيضا محور الاهتمام الأمريكي، ففضلا عن انه لا يمكن أن نتصور أن المواقف الرسمية العربية مما يجري في غزة قد تسبب إزعاجا أو قلقا للإدارة الأمريكية، بشكل يجعلها تشن هجوما دبلوماسيا وسياسيا على دولة من تلك الدول، فإن لديها بالطبع ما يعنيها في الشمال الافريقي، والترتيب للمرحلة المقبلة هناك، قد يكون على رأس اهتماماتها. إنها تريد أن لا تخرج تلك المنطقة ذات الثقل الاستراتيجي المهم عن سيطرتها، إما بفعل التوسع الملحوظ للنفوذ الروسي الصيني المتزايد فيها، أو بفعل بقاء واحدة من أطول الأزمات التي تعيشها دون حل وهي، الأزمة الصحراوية، التي قد تشبه القنبلة الموقوتة التي تنبئ بالانفجار في أي لحظة، بما قد ينعكس بشكل ما على المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة، لكن هل سيكون بمقدورها أن تتحرك بشكل قوي وفاعل في سنة انتخابية؟
إن الملاحظة التي قد تلفت الانتباه هنا هي التزامن الذي سيحدث هذه السنة بين الانتخابات الرئاسية الأمريكية والجزائرية حيث إنهما ستجريان تقريبا في فترة واحدة هي أواخر العام الجاري. ومهما كانت النتائج، وسواء تغيرت الإدارة الحالية أم لا، أو ترشح الرئيس تبون أو لم يترشح للانتخابات المقبلة في بلاده، فإنه لن يكون متوقعا حدوث تغييرات أو تحولات في الخطوط والتوجهات الكبرى، لا في هذا الجانب ولا في ذاك، ولأجل ذلك فإن الرسالة الأمريكية قد تدل وباختصار شديد على أن الجزائر ربما توضع في السنوات المقبلة على محك اختبار أمريكي مهم. أما هل يعني ذلك أن الأمريكيين قد حزموا أمرهم وقرروا وضع حد للمشكل الصحراوي، الذي يقف وعلى المدى البعيد حجر عثرة أمام كثير من مصالحهم، وبدؤوا بالتالي بجس نبض الجزائريين لمقترح ما سيقدمونه؟ ربما سنرى في السنة المقبلة أي بعد أن تعرف الإدارة الأمريكية الجديدة، إن كان ما يحدث الآن هو البوادر الأولى لذلك.
كاتب وصحافي من تونس