مارتا غراهام وجسد نيتشه

حجم الخط
6

أكثر من 20 كتاباً، باللغة الإنكليزية وحدها، صدرت هذا العام حول الراقصة الأمريكية الأشهر مارتا غراهام (1894-1991)، تتناول جوانب شتى من مزايا الرقص التعبيري الذي كانت غراهام رائدة فريدة في تطويره، فيذهب بعضها نحو مزيد من استكشاف المستكشَف لتوّه، والتمعّن في تقنيات الدرس والتدريب على أدقّ حركات الراقصة الراحلة، بما في ذلك ميزان الشهيق والزفير، وحركة اليدين والساقين والقدمين، وانسياب الجسد بين إيقاع وآخر.
الأحدث في هذا المضمار كتاب نيل بولدوين الذي صدر قبل أيام بعنوان «مارتا غراهام: حين أصبح الرقص حديثاً». ولعلّ الكتاب الأهمّ والأعمق، في ناظر هذه السطور على الأقلّ، هو للأمريكية كيمرير لاموت، الراقصة والكاتبة المسرحية والباحثة في الأديان، الذي صدر سنة 2006 بعنوان «راقصات نيتشه: إزادورا دنكن، مارتا غراهام، والثورة في القِيَم المسيحية»، وينطلق من إحدى مقولات الفيلسوف الألماني في «هكذا تكلم زرادشت»: أنّ الـ«أنا» ليست أيّ شيء آخر سوى الجسد، والجسد في سببه الأكبر، هو أنه لا يقول الـ أنا، بل يفعل الـ أنا، وأنه لا برهة تمرّ على الـ أنا من دون أن تكون جسداً فاعلاً… وعبر التعمّق في مدلولات التعبير الجسدي لدى الراقصتَين الشهيرتين، تستعرض لاموت سلسلة مدهشة من الرموز والصور والاستعارات التي تنجم عن، أو يمكن استيلادها في إطار، العلاقات والشبكات والتفاعلات داخل ثنائية «أنا/ جسد».
نعرف أنّ الراقصة تأثرت على نحو عميق وحاسم برؤية نيتشه حول الرقص، غير بعيد عن ثنائية الأنا والجسد؛ وكان عملها الشهير «رثاء»، 1931، بمثابة اجتهادات تعبيرية نيتشوية عالية التطوير وجسورة التجريب. ولم يكن عنوان الرقصة اعتباطياً بالطبع، إذْ شاءت غراهام التشديد على القيمة الرمزية لمظاهر التعبير عن الأسى والحزن والفقد، وليس الرثاء في هذه الحالة صيغة ندب أو تفجّع فحسب؛ بل هو أيضاً مصدر للمعنى العاطفي، النفسي العاطفي تارة والجسدي الحسّي تارة أخرى. ولقد وضعت المشاهدين وجهاً لوجه أمام عبقرية الجسد البشري، في استيلاد نسق إثر نسق من حلقات حزن رمزي وحركي وبصري لم يسبق له مثيل في تاريخ الرقص التعبيري. وأمّا هي، فقد رقصت ملتفّة في أنبوب طويل من قماش ورديّ مطاط، وبرهنت منذ ذلك الوقت المبكر على براعة استثنائية في تحويل الزيّ المسرحي إلى استعارة شعرية.

ليست مفاجأة، والحال هذه، أنّ دور النشر لا تتوقف عن إصدار عشرات المؤلفات، سنة بعد أخرى؛ فيما الجسد النيتشوي يواصل الخلود في تراث الراقصة مارتا غراهام، وليس في كلام زرادشت وحده.

بعد خمس سنوات سوف تقدّم غراهام عملها الأعظم، ربما، بعنوان «أزمان»، الذي طوى صفحة قديمة وفتح أخرى جديدة تماماً في تاريخ الرقص التعبيري، وفي موضوعاته وأساليبه وموسيقاه وديكوراته وخشبته المسرحية. كذلك كُرّس فنّ غراهام مرّة وإلى الأبد، ضمن خصوصية لم تكن مجرّدة من دلالات ثقافية – سياسية كبرى: أنّ العمل يتحدّث عن وقائع الإمبريالية وأزمنتها وأزماتها وحروبها، ولا ينحصر داخل الجغرافيا الأمريكية وحدها (انهيار بورصة «وول ستريت» والركود الكبير، يومذاك)؛ بل يقتفي دروب الإمبريالية إلى حيث تنتهي في الحرب الأهلية الإسبانية. وعلى امتداد ثلاثة اجزاء مشحونة كثيفة زاخرة، اعتمدت غراهام على موسيقى ولنغفورد ريغر، وأداء راقصات نساء حصراً، لترسم لأزمنة الإمبريالية صورة لازمنية عملياً، وملموسة واقعية راهنة، وعريضة واسعة شاملة في آن معاً.
جدّها لأبيها مهاجر إرلندي تسري في عروقه دماء سوداء، وهذه الأصول المختلطة أكسبت الصغيرة مارتا عشرات الحكايات والأخيلة والأساطير التي كان من المحال أن تستجمعها من أيّ مصدر أمريكي. والدها الطبيب لم يكن متحمساً للرقص، لكنه أعطاها فيه درساً مبكراً بليغاً للغاية، سوف يلازمها طويلاً: «لا تكذبي عليّ يا مارتا، لأنّ حركة الجسد لا تكذب أبداً. حين أتطلع إلى جسدك، أعرف أنك تكذبين»! لكنها، في ربيع 1926، برهنت أنّ هذا الجسد لا يكذب ربما، لكنه يستطيع أن «يتكاذب» أدائياً وتعبيرياً إلى مدى لا حدود له؛ وذلك في عمل كانت فيه الراقصة الوحيدة، وتضمّن 18 رقصة لمقطوعات من فرانك وشومان وشوبيرت وبراهمز وديبوسي وسكريابين ورافيل ورحمانينوف ومانويل دي فالا. ولقد كتبت في دليل العرض: «المرأة تجوب شوارع غرناطة، لترتطم بأجنحة الظلمة. إنها، مثل فراشة بيضاء، تبحث عن الضوء». وبين سنوات 1926 و1934 نفّذت غراهام سلسلة رقصات حول موضوعات تراجيدية وكوميدية، واستخدمت قصائد الموت التي خلّفتها الحرب العالمية الأولى، وعالجت موضوعات كونية مثل الجدب والخصوبة والنشوة والموت.
وتوالت عروضها بعد ذلك: «تسبيحتان بدائيتان»، «أسرار بدائية» في ثلاثة أجزاء، «درب الآلام»، «أناشيد للولادة»، «ترنيمة للضوء»، «هرطقة»، و»أنساق تراجيدية: رقصات كورالية من أجل مأساة إغريقية عتيقة». وفي كلّ هذه الأعمال تجلّت نوبات المخيّلة المتطرفة والنزق المتحرر من القيود، وترددت لغة مشحونة بالتاريخ وحسّ التاريخ، وبالشكل وإيقاعات الفعل الشعائري. المؤثرات ازدحمت، في المقابل: فلسفة الـ «زن» البوذية، كتابات كارل يونغ وأتباعه، الشعر القديم والحديث من سافو وتراث الـ «هايكو» إلى ت. س. إليوت وتوماس كرين وسان ـ جون بيرس، مسرح التراجيديا الإغريقي، وفنون العالم العربي (رقص السماح والدبكات خصوصاً).
ليست مفاجأة، والحال هذه، أنّ دور النشر لا تتوقف عن إصدار عشرات المؤلفات، سنة بعد أخرى؛ فيما الجسد النيتشوي يواصل الخلود في تراث الراقصة مارتا غراهام، وليس في كلام زرادشت وحده.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور جمال البدري:

    فنّ الجسد الراقص للأمريكيّة مارتا غراهام؛ أخذته من الرقص الأندلسيّ { الفلامنكو } بعدما أضافت عليه نكهة العالم الجديد.وبالمناسبة فنّ الرقص ظهرفي التاريخ كتسبيحة للمطر؛ ففي العصر الحجريّ الحديث تعرّض وسط العراق القديم للقحط؛ فكانت النسوة يهززهنّ ويرقصنّ بتحريك شعور رؤسهنّ كالطاحونة الهولنديّة؛ كدعاء للرياح بإنزال المطر بواسطة تحريك الهواء…ثمّ أصبح فنّ الرقص جزءًا من طقوس العبادة الفرعونيّة في مصر القديمة.وكان في مصر القديمة خمسة أنواع من الرقص هي : الجميـل ( الشرقيّ ) والإيقاعيّ والزراعيّ والحيّ الميدانيّ والفنيّ.وفي أطروحتها للدكتوراه في إحدى الجامعات الفرنسيّة ؛ تناولت المصريّة سحر الهلاليّ ( الرقص الشرقيّ : أصوله وتطوّراته ومراحله ).وهي أهمّ دراسة عربيّة عن الرقص قديمًا وحديثًا.

  2. يقول المنذر الزبيدي /النجف:

    وينطلق [كتاب كيمرير لاموت] من إحدى مقولات الفيلسوف الألماني في «هكذا تكلم زرادشت»: أنّ الـ«أنا» ليست أيّ شيء آخر سوى الجسد، والجسد في سببه الأكبر، هو أنه لا يقول الـ أنا، بل يفعل الـ أنا، وأنه لا برهة تمرّ على الـ أنا من دون أن تكون جسداً فاعلاً…
    ولهذا السبب على وجه التحدبد كانت مارثا غراهام تشير على الدوام إلى تعبيرها الجسدي بوصفه (فلسفة الجسد) في كل من الشكل والمضمون وليس بوصفه (فن الجسد) كما قال أحد المعلقين

  3. يقول سفيان العفتان دير الزور باريس:

    لا يوجد شيء اسمه فلسفة الجسد.الرقص دائما هو فن حركات الجسد التعبيرية.ويسمى لغة الجسد

    1. يقول المصحح:

      ليس صحيحا بالمطلق القول بأنه لا يوجد شيء اسمه فلسفة الجسد: من يقول هذا القول دون أي سند علمي لا يفقه شيئا عن الرقص التعبيري الذي كانت مارثا غراهام رائدة في تطويره وتمييزه عن بقية أنواع فن الرقص

  4. يقول الدكتور جمال البدري:

    ما قاله الأخ المصحح فيه نسبة عالية من الصحة ؛ لكن ليس في الرقص إنما في الجندري؛ كما تجسّده الصديقة العزيزة جمانة حداد في موضوعات مجلتها: الجسد.أما في الرقص فهناك فنّ الجسد.وبالتالي كلاهما على صواب؛ الذي قال بالفلسفة والذي قال بالفنّ.شكرًا لكليهما…وشكرًا لصبحي حديدي وهو يقرأ تعليقات كلانا.واختلاف الرأي لا يفسد للودّ…
    كلانا ؟

  5. يقول واجئ النقطاء العتوفين:

    أخ جمال، حتى كلامك عن فلسفة الجسد هنا، بعرضك إياها في الأخير كـ”حل وسط” كما تظن، غير دقيق وغير صحيح هو الآخر، وعلى الأخص بحصرك إياها في شكل من مثل مجلة جمانة حداد. إذ تتجلى فلسفة الجسد، والحال هذه، في أشكال تعبيرية متنوعة غيرها، منها – في الشعر كما في غوته وأراغون إلخ، وفي النثر (الروائي) كما في لورنس وجويس إلخ، وفي الرسم كما في بريتون وبوتي وأغويلار إلخ، وحتى في الرقص كما في مارثا غراهام، كما نوه الإخوة صبحي والمنذر والمصحح – وبالمناسبة، مجلة حداد “جسد” التي أشرت إليها ليست سوى شكل مشتق من مزيج من شكلين أو أكثر من هذه الأشكال التعبيرية بنحو أو بآخر إلخ – أخيرا ، فن الجسد موجود أيضا ولكن في أنواع أخرى من الرقص كما هو معروف بديهيا ولا يحتاج إلى أي توكيد ولا إلى أي نوع من الإسهاب !!؟

إشترك في قائمتنا البريدية