مارسيل بروست وجائزة غونكور

■ ليس ما يعيشه الوسط الثقافي العربي بعد كلّ إعلان عن جائزة من جوائزنا الأدبية من تشكيك في مصداقية لجان التحكيم، وحَطٍّ من قيمة الأعمال الفائزة، سوى هَبّةِ نسيم مقارنة بما وصفه مؤخّرا برنار بيفو أحد أعضاء أكاديمية غونكور، بـ«الإعصار» الذي شبَّ في الوسط الثقافي الفرنسي سنة 1919، بعد الإعلان عن فوز مارسيل بروست بجائزة غونكور عن روايته «في ظلّ المراهقات» (وهي الجزء الثاني من عمله الضخم «البحث عن الزمن المفقود»، وقد تُرجمَت إلى العربية بعنوان «في ظلال ربيع الفتيات» وهي ترجمة تبدو ضعيفة جدا). وبمناسبة مرور مئة سنة على ذاك الفوز، أصدر الكاتب تيري لاجيه كتابا بعنوان «بروست، جائزة غونكور: احتجاجات أدبيّة» (غاليمار 2019)، وقد وثّق فيه حيثيات رفض مثقّفي باريس آنذاك لفوز بروست بتلك الجائزة. وهو كتاب وصفته الصحافة الفرنسية بأنّه مُثير وجميل في آن، حيث نجح صاحبه في أن يكشف عن وثائق لم تنشر من قبلُ حول هذا الحدث، وفي أن ينقل للقارئ كلّ جملة كتبها مساند لفوز بروست أو مناهض له، فعل ذلك بدون أن يرجّح كِفّة رأي على كِفّة آخر رغم أنه بروستيّ الهوى الأدبيّ.
مع انتصاف نهار 10 ديسمبر/كانون الأول عام 1919، أعلن الأعضاء العشرة لأكاديمية غونكور، في الطابق الثاني لمطعم دْرُوَان، عن تتويج مارسيل بروست بالجائزة. وفي الحين توجّه كلّ من الناشر غاستون غاليمار وجاك ريفيار وجون غوستاف ترانش إلى بيت بروست (44 نهج الأميرال هاملين في باريس) ليهنئوه بالفوز، فأخبرتهم «سيلاست»، مُدبِّرةُ المنزل، بأنه نائم، وأنها ستنقل له الخبر. وعلى الرغم من أن بروست كان قد أوصى سيلاست بعدم إيقاظه من نومه في الظهيرة مهما كان الأمر، فقد تجرّأت لأوّل مرة على دخول غرفته وإيقاظه من نومه بقولها له: «لقد فزت بجائزة الغونكور»، فما كان منه، وهو الذي عُرِفَ بجُمَله الطويلة، إلاّ أن أجابها باقتضاب: «حقّا؟»، وانتابه في تلك اللحظة فرح عارمٌ، لأنه يقدِّرُ جيّدا قيمة هذا الفوز المعنويّة، سواء على صحّته أو على مستقبل إبداعه، خاصّة وهو يعرف أنّ أكاديمية غونكور قد ظلّت خلال سنوات الحرب العالمية الأولى تميل إلى الروايات التي تتحدّث عن الحرب وتُمجّد أبطال فرنسا فيها، على غرار تتويجها لرواية «النّار» لهنري باربوس في عام 1916 ورواية «حضارة» لجورج دوهاميل في عام 1918، وهو موضوع لم يشتغل عليه هو في روايته الفائزة عكس ما فعل منافسُه على الغونكور في تلك الدَّوْرة، وهو الشاب رولاند دورجيليس، صاحب رواية «صُلبان الخشب»، الذي تكهّنت الصحافة الثقافية بفوزه، بل بجدارة فوزه، بوصفه أحد أبطال الحرب العالمية الأولى، والناجي منها بأعجوبة بعد أن مات في ميادين الشرف فيها نحو 560 كاتبا.

لم يُنصِف مارسيل بروست من احتجاجات مثقفي باريس إلاّ ثلاثة: أولهم ليون دودي الذي قال: «منذ تأسيس الأكاديمية في 1903، لم نقم، في اعتقادي، بتتويج عمل روائي بمثل قوة وثراء وتجديد نص بروست»، وثانيهم جاك ريفيير وثالثهم الزمن.

وكما فاجأ إعلان جائزة غونكور بروست نفسه، فاجأ أيضا مثقّفي باريس من اليساريين وقدامى المحاربين والرجعيين والثوريين، فراحوا على الفور يعلنون جميعا احتجاجاتهم، ويَحطّون من قيمة بروست الشخصية والأدبية ويبحثون في عيوب روايته المتوَّجة بالجائزة، من ذلك أنّ البعض منهم رأى ذاك الفوز أمرا فرضه صديقُه ليون دوتي رئيس أكاديمية غونكور (وهو ابن الكاتب ألفونس دوتي)، الذي كان يُسيطر حينذاك على الحراك الثقافي في فرنسا (وهي سيطرة تكرّرت خلال عقديْ السبعينيات والثمانينيات مع فيليب سوليرس)، وأنّ بروست كاتب برجوازي ثريّ ومساهم في جريدة «لوفيغارو»، وبالتالي فهو لا يحتاج إلى خمسة آلاف فرنك، بل هو كاتب قليل الوطنية لأنه لم يشارك في الحرب، مثلما فعل الشابّ رولاند دورجيليس (34 سنة)، يُضاف إلى ذلك أنّ فوز بروست الذي يبلغ من العمر 48 سنة مخالفٌ لوصيّة إدموند دو غونكور، مؤسّس الجائزة الذي دعا فيها إلى تشجيع الأدباء الشبّان.
وهناك من تصدّى لذلك الفوز بالبحث في هنات رواية بروست، فهي من وجهة نظر هؤلاء نصّ رديء فنيا، فيه كثير من الهراء، وغير قابل للقراءة، وهو نابع من إنسان مريض (كان بروست يعاني من الالتهاب الرئويّ، الذي أودى بحياته بعد ثلاث سنوات من فوزه بالغونكور). كما كتب محرّر صحيفة «لو بوبيلير» مساء الإعلان عن الجائزة، أنّ فوز بروست بها لا يعود إلى كونه مبدِعا، وإنّما لأنه قد أشبع أمعاء ستة أعضاء من لجنة التحكيم، وعلى رأسهم صديقه ليون دوتي، أما صحيفة «العمل» فقد استغربت في عددها الصادر يوم 12 ديسمبر 1919 من فوز بروست بسبب كونه كاتبا يُصاب بالسكتة الدماغية مع الساعة الخامسة من كل يوم، ووصفته بأنه رجل متلهّف على المجد والمال. كما عمد الناشــر ألبان ميشال إلى وضع لافتة على رواية «صُلبان الخشب» لرولاند دورجيليس غير المتوَّجة بالجائزة وكتب عليها عبارة «جائزة غونكور»، وهو ما دفع غاليمار ناشر رواية بروست إلى رفع قضية في المحكمة التي أمرت بإزالة تلك اللافتة بعد مضيّ أشهر طويلة.
ولم يُنصِف مارسيل بروست من احتجاجات مثقفي باريس إلاّ ثلاثة: أولهم ليون دودي الذي قال: «منذ تأسيس الأكاديمية في 1903، لم نقم، في اعتقادي، بتتويج عمل روائي بمثل قوة وثراء وتجديد نص بروست»، وهو رأي ما يزال وجيها إلى الآن بعد مضيّ مئة سنة على ذاك الفوز. وثانيهم جاك ريفيير، مدير المجلة الفرنسية الجديدة، في قوله: «الروائع الأدبية هي فقط التي تحظى بشرف الاستقبال من قبل جوقة متناغمة من الأعداء».
وثالثهم الزمنُ الذي أثبت عبقريةَ بروست الروائية، وجدارته بكل فوز وتكريم. أمّا بروست نفسه، فقد كان يستمتع بالتتويج وبتلك الاحتجاجات معا، حيث تلقى 817 رسالة تهنئة، كما دعا الصحافيين إلى غداء خاصّ، وبيّن لهم بأنهم كانوا مخطئين جميعا في التقلـــيل من قيمته. وحين سأله أحدهــــم: «لماذا تكـــتب؟» أجاب مازحا: «لكي يتحدّث الناسُ عن رولاند دورجيليس» لكن إجابته تلك لم تنشر في الصحافة في ذاك الوقت.

٭ كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية