مارلون جيمس… تاريخ الريغي كما لو أنه تاريخ الراي

حجم الخط
1

■ من الجزائر إلى جامايكا تبدو المسافة بعيدة جداً، ولا تاريخ مشترك بين البلدين. نعرف منهم بوب مارلي وبعضاً من عدائي المسافات القصيرة، وقد لا يعرفون عنا سوى النزر القليل. الجزائر لم تفتح قنصلية لها هناك إلا قبل خمس سنوات، ولحد الساعة، لم نشهد زيارات عالية المستوى بين الدولتين. لكن أمازيغ كاتب وجد سبباً في الوصل بين الطرفين. تخيل شكل الحياة، هناك وغنى «باب الوادي ـ كينغستون»، في مديح الحشيش و«راستافارية» أو «راستا»، ومن يُشبههم من معتنقي موسيقى الديوان والمتصوفة في الجزائر؛ غنى عن لذة المحظورات ومعاداة الشرطة.
كان ذلك في الماضي، أما الآن فيُمكن أن نعود إلى رواية «تاريخ مختصر لسبعة اغتيالات» للجامايكي مارلون جيمس (1970)، نُرافق شخصياتها في حارات كينغستون وأزقتها، نقرأ ما يسرون به عن الريغي وبوب مارلي، الذي يُشيرون له بالمغني بدل اسمه الحقيقي، نُصاحبهم في ضجرهم وقلقهم، في منتصف السبعينيات، نستمع إليهم ونفهم منهم ظـــروف نشــــأة الريغي، كي نجد حجم التطــــابق مـــع بدايـــات الراي، في الجزائر. لم يخطئ الشاب طارق عنـــــدما أدى أشهر أغانيه، قبل أكثر من عشرين سنة، «ريغي ـ راي»، فكينغستون تبدو توأم وهران، والريغي «راي» آخر.
مطلع ديسمبر/كانون الأول 1976، سبعة أشخاص ينوون اغتيال بوب مارلي. «الحفل سيُقام غداً، وتكفي طلقة نارية واحدة كي تقوم القيامة»، لكن المغني ينجو من محاولة تصفيته، ويُقيم حفلاً لمساندة الحزب الحاكم، الذي كان يتهيأ حينها للانتخابات. هذا ما أراد أن يُرويه مارلون جيمس، ولكن من أجل أن يتم القصة كاملة، سوف يحتاج إلى أكثر من 700 صفحة، تبدأ من فهرسة أسماء الشخصيات، الذين يتجاوز عددهم السبعين، ويجب على القارئ العودة دائماً إلى ذلك الفهرس، لا يغفل النظر عنه، كي لا يضيع في زحمة السرد، ثم من تمهيد بصوت شخصية ميتة، مع ملحق في نهاية الرواية، يشرح كلمات وجملا وردت بالعامية، ما قد يُحبط القارئ، في البداية، ولا يحثه على قراءة رواية بوليفونية، بهذا الحجم، لكن بمجرد الشروع في الفصل الأول، تتغير الصورة، نجد أنفسنا أمام رواية نهرية، لا يتوقف فيها سيل الحكايات والأحاجي والنكت والمكائد والمصائب، نخوض في حروب الغيتوهات في كينغستون وصراعات بين اشتراكيين ورأسماليين، ننتقل من جامايكا إلى أمريكا، مروراً بكوبا، لنلمح تراتبية العلاقة بينها، كما كانت بين الجزائر وفرنسا، نُصادف أشخاصاً عاديين ومخبرين ومهندسين ومروجي مخدرات وعاهرات، وكما تورط الريغي في علاقة لصيقة بالأمن، حصل الشيء ذاته مع الراي. خدم الريغي الحكام ولم يحد الراي عن الطريق ذاته، وكلا النمطيين الموسيقيين ولدا وكبرا في أحياء فقيرة، بين أفراد معدومين، صاروا في ما بعد نجوماً في بلديهما.

تتشابك خيوط الرواية، كما لو أنها متاهة لا نعرف كيف الخروج منها، في كتابة تحاذي الاستطلاعات الصحافية أحياناً، محادثات بين شخصيات، كما لو أنها حوارات مقتطفة من جريدة، من أجل الإمساك بتاريخ البلد من طرفيه.

«تاريخ مختصر لسبعة اغتيالات» تحتفي بالموسيقى، إنها رواية سماعية، تستعيد مقاطع وأغاني لبوب مارلي، وتدمجها على ألسنة الشخصيات. تلك الموسيقى تملأ الفراغات وكل لحظات الصمت التي يُصادفها الكاتب. تعيد ترتيب الشخصيات وتمهد للطفرات من فصل لآخر. كلمات الأغاني تعوض ـ في بعض الأحيان ـ الحوارات، وتضيف بهجة على هذه الرواية التي تكتظ بمشاهد درامية وتوتر وقلق وصخب في أحداثها. هي ليست رواية عن جامايكا، بل رواية جامايكا، تاريخ مختصر عن بلد لم يتعاف من أسئلة ما بعد الكولونيالية، ولا يزال في صدام مع ماضيه. فمن خلال استعادة تاريخ الريغي، يحكي المؤلف، لا شعورياً، تاريخ بلد بأكمله، لا يستثني أحداً من السخرية أو النقد أو الذم، يُمارس أحياناً سادية، ولا يطمئن للقوالب الجاهزة في توصيف أفراد أو أمكنة. يبدو ضد الجميع ومع الجميع في آن. في هذا الشلال الحكائي، مع فصول قصيرة أو متوسطة الحجم، نقرأ تاريخاً جامايكياً كما لو أنه تاريخ جزائري، حيث يكفي أن نغير كلمة ريغي بكلمة راي، ونغير أسماء أحياء كينغستون بأسماء أحياء في وهران، وسوف نجد أنفسنا كما لو أننا نتتبع تاريخ الجزائر، من الاحتلال إلى الاستقلال، مع كل التحولات والاضطرابات التي شهدها. ولم يغب عن ناظري الكاتب الإحاطة بشذرات من تاريخ الهجرة والدياسبورا الجامايكية في أمريكا، بشكل يتطابق مع الهجرة الجزائرية في شمال الأبيض المتوسط.
من خلال حادثة واحدة، وهي محاولة اغتيال بوب مارلي، تتعدد الأصوات وترتفع، تتشابك خيوط الرواية، كما لو أنها متاهة لا نعرف كيف الخروج منها، في كتابة تحاذي الاستطلاعات الصحافية أحياناً، محادثات بين شخصيات، كما لو أنها حوارات مقتطفة من جريدة، من أجل الإمساك بتاريخ البلد من طرفيه. إنها أيضا رواية إثنوغرافية، في محاولة هدم الكليشيهات في العلاقة بين السود والبيض والصدامات التي تتكرر بينهما، والتي لم تحسم، بل غيرت من جلدها لا أكثر. ذلك الصراع بين بيض وسود يذكرنا ـ في بعض المقاطع ـ في صراع بين عرب وأمازيغ، ونشعر كما لو أن جامايكا تعيش على حافة هاوية، تقترب من السقوط، لكنها تفلت، في آخر لحظة، ويكتب مارلون جيمس على لسان واحدة من الشخصيات: «لا توجد جامايكا واحدة بل جامايكات»، وكل واحد يختار أي واحدة يعيش فيها. ويفضل الكاتب جامايكا التي تتحول فيها صراعات هامشية، بين مدمني مخدرات ومعتنقي الريغي إلى قضايا سياسية، تحدد مصير شعب بأكمله. يساير عنفهم ورعونتهم وأحلامهم كي يستمر في رواية تفضح اللامساواة، وتسعى لا لشرح العنف أو فهمه، بل في توصيف نتائجه وتداعياته.
بدأ الريغي في الستينيات من القرن الماضي، مستلهما موسيقى السكا المحلية، قبل أن يبلع نسخته الأكثر تطورا كما سمعناها في أغاني بوب مارلي، أطلقت عليه في البدء تسميات محلية، قبل أن يصل إلى اسمه الختامي، كما أرادت له مجلات أمريكية، وهو الحال نفسه مع الراي، الذي خـــرج من البدوي والوهراني، قبل أن يثبت على اسم واحد، ففي حكايته عن موسيــــقى بلده، يحوم مارلون جيمس على حكايات مشابهة حصلت في مناطق بعيدة عنه، ربما لم يسمع عنها، فإذا تطور الريغي في استديوهات أمريكية، فقد تطور الراي في استديوهات فرنسية، ومن خلال قصة محــــاولة اغتــــيال بوب مارلي، نقرأ في «تاريخ مختصر لسبعة اغتيالات» شذرات من تاريخ بلد يتفكك، لا يمتلك زمام أموره، يعيش على وقع تصفيات حسابات، يستحيل فيها أفراد مغيــبون نجوما، وتحكمه عصب تُمارس السياسة كما لو أنها في نزال ملاكمة.

٭ كاتب من الجزائر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صوت من مراكش:

    لو قدر لك زيارة جامايكا لاكتشفت ان من يحكمها ليس الا ملك الريغي

    فأنت تسير بين المحلات او الشوارع تطل عليك صوره بل يطلع عليك وجهه

    في الشوارع او سيارات الاجرة من صدور مجاوريك المكسوة باقمصة استوطنها

    بوب مارلي للابد هكذا رأيتها في زياراتي لها قبل سنين لا يغيب الحديث عن الحشيش

    و لبلاك ستون من تجاذب المتكلمين فيها اكثر ما يزعج فيها هو غلائها الفاحش

    تحياتي

إشترك في قائمتنا البريدية