ماريو خمينيث هو أشهر ساعي بريد في العالم، ومع هذا فهو شخصية خيالية ابتكرها الكاتب التشيلي ذو الأصول الكرواتية أنطونيو سكارميتا، في روايته «ساعي بريد بابلو نيرودا». ولأن بابلو نيرودا شخصية حقيقية، ملأت أصقاع الدنيا بشعرها، خاصة بعد حصولها على نوبل للآداب عام 1971، فإن قارئ الرواية لا مهرب له من تصديقها، يبتكر سكارميتا نهاية ثانية لنيرودا، مختلفة تماما عن نهايته الحقيقية، ويمنحه فرصة لقول أشياء كثيرة أهمها ما قد يحدثه الشعر من مفعول سحري في ساعي بريد بسيط بالكاد «يفكُّ الخط». الرواية التي قرأتها بترجمة الراحل صالح علماني، الذي أبدع في نقلها للعربية، جعلتني أتعاطف مع ساعي البريد ماريو خمينيث كثيرا، وقد تساءلت بيني وبين نفسي هل حدث في هذا العالم الواسع أن تكوّنت علاقة جميلة بهذه الميزات بين كاتب أو شاعر؟
في زمن الرسائل الورقية كان نجوم السينما والتلفزيون أكثر من كتاب الأعمدة الشهيرة في الجرائد يتلقون أكياسا ضخمة من البريد، فقد كتب المعجبون لنجومهم الكثير من الكلام الجميل، لكننا أبدا لم نعرف مصير تلك الرسائل، ربما انتهت جميعها إلى مكبّات النفايات. وربما كانت عزاء طيبا لمن عانوا من ألم الوحدة وسط صخب الشهرة، وربما كانت تغذّي غرور من أوهمته الشهرة أنه «ملك زمانه». في كل الحالات كان ساعي البريد مرئيا أحيانا وأحيانا غير مرئي تماما، كما صوّرته السينما والأدب وفقا للحياة نفسها، التي لم تعطه دور البطولة كما في رواية سكارميتا.
سنة 1994 قام المخرج ميكائيل ردفورد بتحويل الرواية إلى فيلم، وقد زاد الفيلم من شهرة ماريو خمينيث، وحتى حين صدر فيلم كيفن كوستنر «ساعي البريد» بعد ثلاث سنوات مقتبسا عن رواية عالم الفيزياء الفلكية والكاتب العبقري ديفيد برين صدّقنا أن مهنة سعاة البريد بدأت بتلك الصعوبات والظروف الغريبة، لكننا تذكرنا ماريو صديق نيرودا الذي لم يغادر الأذهان.
حين كتب سكارميتا روايته، بالتأكيد أراد أن يلقي الضوء على الشاب البسيط الذي رفض أن يكون صيادا مثل والده، واختار أن يكون ساعي بريد، كان نموذجا لمأساة التشيلي التي انعكست في ميناء صغير على هامش خريطة العالم، سكانها أميون، وإن كان فيها مركز بريد فلا أحد يتلقى فيها بريدا غير شاعر واحد هو الشاعر المفضل للكاتب. تنشأ علاقة رائعة بين الشاب العاشق والشاعر الوطني، تجعل الشاب يعيش تحولات لم يختبرها من قبل، ويكون ذلك تحت تأثير الشعر والأحاديث الفلسفية والأدبية، لكن تلك التحوّلات التي جعلت الشاب أكثر فتنة لحبيبته بياتريس، ولا غاية له سوى نيل قلبها والفوز بها، رغم إصرار أمها على أن تجد لها عريسا ثريا، ضاربة عرض الحائط استعاراته اللغوية التي لقنها إياه الشاعر، لاعنة لغته المفخخة بالغوايات «الجميع شعراء في تشيلي، من الأفضل أن تظلّ ساعي بريد»! تكمن الخطورة في هذه الجملة، لكن الأمر مختلف بالنسبة للشرطة السرية، حين أصبح الشاب في نظرها رجلا يعرف أكثر مما ينبغي، تنتهي الرواية حين يؤخذ للاستجواب بعد أن انتهت جنازة دفن نيرودا الافتراضية، وتبقى الرواية مفتوحة على عدة احتمالات مرتبطة بتصورات القارئ وخلفيته الثقافية.
إلى مطلع التسعينيات كان ساعي البريد الشخص الوحيد الذي يوصل كلمات إعجابنا لنجمنا المفضل في هوليوود وبعد شهرين أو ثلاثة أشهر، يحمل لنا رسالة بطابع بريد أمريكي في داخلها صورة جميلة جدا للنجم مع توقيعه.
في الحقيقة من يعرف المجتمع أكثر، الشاعر أم ساعي البريد؟ من يعرف أسماء أفراده وعناوينهم ومستوياتهم وأوضاعهم وطبائعهم غير هذا «الرسول» الذي يؤدي وظيفة غاية في الخطورة لكننا غفلنا عنها؟ يحمل أسرار الناس بأمانة ويوصلها، لكن من يتذكّر الفترة التي أحال فيها البريد الإلكتروني ساعي البريد على التقاعد؟ من يتذكر علب البريد التي أصبحت أغلب الوقت مغلقة، إلا إذا حشرت فيها فواتير الماء والكهرباء والغاز؟ في غيابه ذاك استفقدناه وشعرنا كم كان مروره جميلا ولو من باب الحضور، بقبعته وحقيبته السوداء الكبيرة، دون درّاجة في الغالب، إذ يمشي ساعي البريد مسافات على قدميه وقد يتوقف ليشرب كوب ماء عند أحدهم، أو فنجان قهوة أو كعكة صغيرة أو حبة شوكولاته. لطالما أكرم الناس ساعي البريد لكن دون التوغل في حياته، هو رجل الهامش الذي يعرفنا ولا نعرف عنه الكثير. ثم في السنوات الأخيرة بدأت خدمات التوصيل في بلداننا توظف من جديد سعاة بريد، قد يسميه البعض موظف توصيل، لكنه في الحقيقة ساعي بريد «على الموضة» دون قبعة ودون حقيبة، أما احتكاكه بدور النشر والأدباء والكتب فلم تعد تهمة، بل أصبحت مهمة يفتخر بممارستها. في آخر توصيلة لبيتي، سألني الشاب الذي أحضر لي مجموعة كتب: هل تقرأين كل هذه الكتب؟ أجبته نعم لهذا طلبتها، ففاجأني بأنه يعشق القراءة. أمّا مهنة توصيل الكتب فقد جعلته يتعرّف على أهل الأدب، وأن له الشرف للتعرّف عليّ! لن أكذب عليكم ربما كانت سعادتي أكبر من سعادته، مباشرة رأيت فيه ماريو خمينيث، الذي طوّر من ملكته اللغوية، وتعلّم الاستعارات، وصار يقرأ الشعر، ويناقش نيرودا في مواضيع فلسفية صعبة. مهنة توصيل الكتب انتقمت لماريو الفتى العاشق المفتون بالشعر والاستعارات، وها هو يعود في روح كل «ساعي بريد» جديد يحمل طرود الكتب لعشاق القراءة، ويكوّن علاقات طيبة مع الأدباء. يخبرني شاب الكتب أنه قام بتوصيل طرود كثيرة تحوي أشياء مختلفة، لكنّه يحترم أكثر أصحاب طرود الكتب، يقول «إنهم محترمون».
وصدقا لا أدري لماذا انحزت لماريو خمينيث، ورواية أنطونيو سكارميتا، فلعلّ البعض يرى في رواية تشارلز بوكوفسكي «مكتب البريد» ما هو أقرب للواقع، خاصة أنه كتب ما عاشه، وما خبره على مدى أربع عشرة سنة كموظف فيه. الكتاب الذي ترجمته ريم غنايم وصدر عن دار الجمل، قدّم صورة قاتمة لموظفي البريد، ولعلّها القتامة الشخصية التي عاشها بوكوفسكي، والتي انعكست على رؤيته لما حوله بذلك اللون الداكن. لقد منحنا سكارميتا الكثير من الأمل، وتطابقت رؤيته مع شعبية ساعي البريد التي يحظى بها خاصة في الأرياف والقرى البعيدة وعائلات المهاجرين.
إلى مطلع التسعينيات كان ساعي البريد الشخص الوحيد الذي يوصل كلمات إعجابنا لنجمنا المفضل في هوليوود وبعد شهرين أو ثلاثة أشهر، يحمل لنا رسالة بطابع بريد أمريكي في داخلها صورة جميلة جدا للنجم مع توقيعه. كان الجندي المجهول الذي أبقى روابط عائلية وصداقات على قيد الحياة، بل كان في إمكانه أن يربطنا بشخص في آخر الدنيا، وكانت الكلمات التي نكتبها بخط أيدينا تحمل حرارة أصابعنا وأنفاسنا، وأجزاء متناهية في الصغر منا يسميها العلم اليوم DNA لهذا في حالة العشق نلثم الرسالة ونقبلها، ولم يكن ذلك أمرا مضحكا، أو غبيا إذا ما اعتقدت أجيال اليوم ذلك التصرف كذلك. في كل الحالات قلّة هم سعاة البريد الذين حظوا بمكانة خاصة في حياة مبدعين، لقد كانوا بسطاء، ودون أدنى شك كان بوكوفسكي صادقا بوصف بعضهم بصفات شريرة، لكن في زمن مضى إلى اللارجعة، قام رجل فقير وهبه الله موهبة الرسم فرسم صديقه ساعي البريد الفقير الذي أحبه هو وعائلته، فخلّده إلى الأبد، كان ذلك فان غوغ وصديقه جوزيف رولين وتفاصيل القصة لم أجدها لأشبع فضولي وفضولكم، لكني أعرف أن تلك الصداقة كانت أثمن من ملايين الدولارات التي بيعت بها اللوحة.
أمّا السر الجميل في كل ما سبق من كلام، فهو أن ساعي البريد كان ملهما لمبدعين كبار بمستوى عالمي، أما نحن فقلة منا تشتاق لزمنه لأنه كان في خلفية الحقبة الرومانسية وواحدا من صانعيها، لكنه لم يكن محظوظا ليخلّد بعمل جميل يرفع من شأنه، ويظهر قيمته الإنسانية الحقيقية.
شاعرة وإعلامية من البحرين